القمة العربية التي انعقدت في مملكة البحرين لأول مرةٍ في تاريخها منذ إنشاء الجامعة العربية، كانت بديعة التنظيم ومهمة لبيان الموقف العربي الموحّد تجاه أي أطماعٍ تهدد استقلال المملكة واستقرارها من أطرافٍ لم تخفِ يوماً استهداف البحرين وأمنها. ومع نجاح القمة فإنَّ آليات عمل الجامعة العربية ما زالت بحاجة ماسة لإعادة النظر عبر النقد البنّاء نحو مزيد فاعلية وتأثير، بعيداً عن معوقات الماضي وتشظيات الحاضر.
كرَّر «البيان الختامي» للقمة التأكيد على دعم «استقلال» و«استقرار» و«أمن» عدد من الدول العربية، مثل سوريا وليبيا واليمن ولبنان والسودان، وعلى عددٍ من الملفات المهمة مثل «الأمن المائي العربي». وفي الحدث الساخن منذ قمة السعودية في نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي، وهو «أزمة غزة»، دعا الرئيس الفلسطيني محمود عباس وملك البحرين حمد بن عيسى إلى «عقد مؤتمر دولي تحت رعاية (الأمم المتحدة)، لحلّ القضية الفلسطينية على أساس حلّ الدولتين»، وأيّدتهما جميع الدول العربية.
كما دعتِ القمة في موقفٍ مهمٍ وضروريٍ إلى «نشر قوات حماية وحفظ سلام دولية تابعة لـ(الأمم المتحدة) في الأرض الفلسطينية المحتلة، إلى حين تنفيذ حل الدولتين»، وهو ما سيحتاج لموقفٍ من «مجلس الأمن» الدولي، ولكنها خطوةٌ بالاتجاه الصحيح، وانتقد الرئيس الفلسطيني صراحةً حركة «حماس» بالقول إن «العملية العسكرية التي نفذتها (حماس) بقرار منفرد في ذلك اليوم، في السابع من أكتوبر، وفّرت لإسرائيل مزيداً من الذرائع والمبررات كي تهاجم قطاع غزة، وتُمعِن فيه قتلاً وتدميراً وتهجيراً». وهذا كلامٌ كتبه قلةٌ من الكتّاب العرب في حينه، وهوجمت مواقفهم مِن بعض مَن أدمنوا الشعارات والمزايدات من الكتّاب العرب، وهو كلامٌ سياسيٌ محكمٌ يعبّر عن السلطة الفلسطينية وعن «منظمة التحرير الفلسطينية»، التي أكد البيان الختامي للقمة العربية مجدداً على أنها الممثل الشرعي والوحيد للشعب الفلسطيني، ودعا «كافة الفصائل الفلسطينية للانضواء تحت مظلة منظمة التحرير الفلسطينية».
«حلّ الدولتين» هو الحل الحقيقي للقضية الفلسطينية برمتها، وتمثله «المبادرة العربية»، ويحظى بدعم غالب دول العالم ومنظماته، ولا يرفضه إلا 3 جهاتٍ فقط، هي «إسرائيل» و«إيران» وتابعتها «حماس»، التي التقت مصالحها على ضرب المصلحة الفلسطينية العليا، ولا يعنيها الشعب الفلسطيني ولا دولته بأي حالٍ من الأحوال، ولكلٍ من هذه الجهات غاياته وشعاراته وآيديولوجياته. وتطرّف اليمين الإسرائيلي لا يقل تشوهاً عن تطرف الجهتين المقابلتين له.
وعلى الرغم من «مأساة غزة»، فإنَّ في المنطقة ما يبشر بمستقبلٍ أفضل، وربما كانت المآسي سبباً لانفراجات التاريخ، فالسعودية تقترب كثيراً من توقيع «اتفاق أمني» مع الولايات المتحدة، ومعه عملٌ سعوديٌ قويٌ، وبتنسيقٍ مكثفٍ مع الفلسطينيين لفتح مسارٍ لحل الدولتين بشكل واقعي، يحمل مصداقية معتبرةً، وللمرة الأولى تجد إسرائيل نفسها أمام خياراتٍ صعبةٍ، لا تهددها بالعصا فقط كما في السابق، ولكنها تحمل الجزرة أيضاً، وهي هذه المرة كبيرةٌ بما يكفي لوضع تطرف اليمين الإسرائيلي على المحكّ داخل إسرائيل، وعند حلفائها الأقرب دولياً.
السعودية وقّعت قبل فترةٍ مع «إيران»، وبرعاية صينية كاملة، ما يمنح المنطقة فرصةً لتصبح «أوروبا الجديدة»، كما هو التصريح الشهير لولي العهد السعودي في رؤيته للمنطقة. وفي العراق وسوريا واليمن، أصبحت ثمة «جزرة» من المصالح المدعومة من السعودية وحلفائها، للتخفيف من الأزمات الداخلية والتدخلات الخارجية.
وحدثٌ بالغ الأهمية، ستكون له تداعياته في المنطقة، هو الموقف الحازم لأمير الكويت الشيخ مشعل الأحمد بإجراء تعديلاتٍ دستورية، وحلّ مجلس الأمة والإعلان عن تنفيذ خطةٍ تنمويةٍ كبرى، ورفض كل مظاهر الفوضى والتشتت والتنافس المعيق والتهديدات الداخلية، والتدخلات الخارجية، ما يعلن عودة الكويت لنفسها وشعبها وترسيخ قوتها وتأثيرها الإقليمي.
لئن لم يكن التاريخ «حتمية»، فإنه ليس «صدفة»، فلا الحتميات على تنوعها قادرة على تفسيره بشكل علميٍ محكم، والصدف أقل حظاً بالتأكيد من الحتميات في تفسيره، على الرغم من الجدالات الواسعة والعريضة فلسفياً وعلمياً حول هذا الموضوع. ومن هنا، فإن تأثير البشر أفراداً ومجتمعاتٍ، دولاً وحكوماتٍ، شعوباً وقياداتٍ، هو الأهم حيث تصنع الرؤى وتبنى الاستراتيجيات في عالمٍ مضطربٍ ومليء بالصراعات الكبرى والصغرى. وما يجري في منطقتنا من نجاحاتٍ مبشرةٍ إنما هي من هذا النوع الذي يفتح الأفق رحباً، والطريق لاحباً، نحو مستقبلٍ أفضل.
أخيراً، لا تتحقق نجاحات السياسة في مددٍ قصيرةٍ، بل هي تحتاج وقتاً وجهداً حتى تتوفر لها الظروف الملائمة، وتتضافر الجهود المناسبة، وتلتقي المصالح المتناقضة أو المتضادة. والأقلام التي تصدق رؤاها وتحليلاتها في غالب المواقف المختلطة هي جديرةٌ بالتقدير أكثر ممن احترفوا التقلب والمزايدات.