في 13 ديسمبر (كانون الأول) سنة 1932، أصدر الملك فؤاد مرسوماً ملكياً بإنشاء مجمع ملكي للغة العربية. ومن بين مواد هذا المرسوم المكوّن من عشرين مادة، مادة كان نصها يقول: «يؤلَّف المجمع من عشرين عضواً عاملاً، يختارون من غير تقيد بالجنسية، من بين المعروفين بتبحرهم في اللغة العربية، أو بأبحاث في فقه هذه اللغة أو لهجاتها».
وفي 6 أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1933، أصدر مرسوماً ملكياً عيَّن فيه عشرين عضواً عاملاً بمجمع اللغة العربية الملكي، عشرة منهم من مصر، وعشرة منهم غير مصريين.
العشرة غير المصريين، كان منهم خمسة من بعض البلدان العربية، وخمسة من المستشرقين.
الخمسة من بعض البلدان العربية، هم: اثنان من سوريا، وواحد من العراق، وواحد من لبنان، وواحد من تونس.
ولأن ما يهمنا من هذه المعلومات التي ذكرتها، هم المستشرقون المعينون أعضاءً عاملين في هذا المجمع، سأذكر أسماءهم: هاملتون جب (إنجلترا)، أوجستن فيشر (ألمانيا)، كارلو ألفونسو نَلِّينو (إيطاليا)، لويس ماسينيون (فرنسا)، أرند جان فنسنك (هولندا).
الطبيب حسين الهراوي في كتابه (المستشرقون والإسلام)، قدّم حول اختيار الاسم الأخير عضواً في مجمع اللغة العربية الملكي، إفادتين: إفادة بعضها غير دقيق، وإفادة دقيقة.
الإفادة التي بعضها غير دقيق وردت في الفصل الأول من كتابه، وهي قوله: «والذي دعانا إلى وضع هذا الكتاب هو تلك الحادثة المشهورة التي اضطرب لها عقلاء المصريين، فإنَّه لما صدر المرسوم الملكي بتأليف المجمع اللغوي الملكي بالقاهرة، وجدنا اسم فنسنك من ضمن أعضائه، فنشرنا شيئاً من مباحثه، ورددنا عليه، وانبنى على ذلك خروجه أو إخراجه من المجمع اللغوي، وحلول غيره مكانه، وبذلك انفضح جانب عظيم من أعمال المستشرقين وحقيقتهم، مما سيتجلى عند قراءة هذا الموضوع في الصفحات المقبلة».
غير الدقيق في هذه الإفادة أن كتابه ليس تأليفاً؛ بل هو جمع لمقالات منشورة قبل سنوات قليلة من صدورها في كتاب عام 1936، وأن كتابه الصادر في هذا العام تضمن مقالات مناهضة للاستشراق والمستشرقين جملة وتفصيلاً، قبل تعيين فنسنك عضواً في مجمع اللغة العربية الملكي.
الإفادة الدقيقة هي قوله بالفصل الثامن من كتابه: «وصدر المرسوم الملكي، ووجدت فيه اسم فنسنك، فنشرت في أهرام 11 من أكتوبر سنة 1933 المقال الآتي...».
مقاله الثاني في هجومه العاصف على فنسنك نُشر في جريدة (الأهرام) في 30 أكتوبر سنة 1933، وأعاد تلخيص هذا المقال، لتنشره مجلة (الهلال) في 1 يناير (كانون الثاني) 1934، ضمن عنوان عريض، هو «رأيان متعارضان، هل ضرر المستشرقين أكثر من نفعهم؟». وفي عنوان فرعي كتب الهراوي مقالاً تحت هذا العنوان: (ضررهم أكثر من نفعهم). وفي عنوان فرعي آخر، كتب زكي مبارك مقالاً تحت هذا العنوان: (نفعهم أكثر من ضررهم). وبعض ما قال زكي مبارك في هذا المقال كان قد قاله في مجادلته مع الهراوي في الدفاع عن المستشرقين، في جريدة (البلاغ) ومجلة (المعرفة) عام 1932.
في 24 يناير سنة 1934 أصدر الملك فؤاد مرسوماً ملكياً بتعيين إنو ليتمان (ألمانيا) عضواً عاملاً بمجمع اللغة العربية الملكي. وقد عُيِّن في هذا الموقع ليكون بدلاً من فنسنك. وإخراج فنسنك من مجمع اللغة العربية الملكي كان بسبب هجوم حسين الهراوي عليه في مقالين نشرتهما جريدة (الأهرام).
حازم صاغية في الفصل الخاص بـ(نشأة العداء للاستشراق) في كتابه (ثقافات الخمينية، موقف من الاستشراق أم حرب على طيف؟) ربما لم يطلع اطلاعاً مباشراً على كتاب (المستشرقون والإسلام)، وعلى هذا الكتاب حين بدأ صاحبه نشره في مقالات؛ علماً بأن هذه المقالات لم يضمها كلها في هذا الكتاب، وليس الاكتفاء باقتباسات وردت في دراسة ميشال جحا (المستشرقون في الميزان) وبإشارات وردت في كتاب محسن جاسم الموسوي (الاستشراق في الفكر العربي)، إذ لا بد من مراعاة تواريخ إصدار (إنسكلوبيديا الإسلام) أو (دائرة المعارف الإسلامية) على مستويين، إصدارها في كراسات، وإصدارها في مجلدات.
ينقل حازم صاغية من دراسة (المستشرقون في الميزان) قول ميشال جحا فيها: «... وهذا التقليد استمر لاحقاً مع مثقفين، مسلمين ومسيحيين، كزكي مبارك الذي صحَّح أغلاط المستشرقين؛ لكنه دافع عنهم ضد تهجمات حسين الهراوي». ثم يضيف هو قائلاً: «لينقلب انقلاباً كاملاً في الحقبة الراديكالية التالية».
زكي مبارك المتوفى سنة 1952، في موقفه من المستشرقين الذي كان يرى فيه أن «نفعهم أكثر من ضررهم» لم يتعرض للتغير أو الانقلاب، ولا أدري إلى أي مقال أو كتاب لزكي مبارك استند في دعواه هذه.
ومع أنه في ذلك الفصل لم يحدد على نحو جلي السنوات التي بدأت فيها الحقبة الراديكالية في الموقف من المستشرقين في مصر، أو في بلد عربي آخر، فإنه يبدو لي أنه قد حددها «باكستانياً» في العالم العربي في هذه الفقرة من فصل (نشأة العداء للاستشراق): «فالبدايات الأولى للحملة على الاستشراق بصفته تلك ترقى -حسب رواية برنارد لويس- إلى صدور الطبعة الثانية من (دائرة المعارف الإسلامية) في 1950، وقد جاء الهجوم من باكستان التي كان قد انقضى على ولادتها ثلاث سنوات فحسب، من دون أن تندرج أصلاً في الأفق الإسلامي– الإمبراطوري المشدود إلى التجربة العثمانية. وربما كان لويس يقصد محمد أسد، النمسوي اليهودي المولد الذي تحوّل إلى الإسلام أواسط العشرينات في أفغانستان التي كان يزورها حينذاك، ثم عاش في باكستان حتى وفاته مطالع التسعينات. فقد كتب أسد آنذاك بلهجة حاسمة بقدر ما هي تعميمية: ...».
وبعد أن أورد حازم صاغية ما قاله محمد أسد في حكمه التعميمي على المستشرقين الذي اقتبسه هو من دراسة ميشال جحا، وليس من مرجعه الأصلي، قال: «وليس عديم المعنى أن تكون (دائرة المعارف الإسلامية) ذريعة التمرين الهجومي الذي بدأه حسين الهراوي وطوره محمد أسد، ثم جدده إدوارد سعيد بهجومه على مشروع ديربلو الذي يعود إلى 1697، والذي عدَّه مكسيم رودنسون، مما سنرى لاحقاً، (الإنسكلوبيديا الأولى عن الإسلام)».
ما قاله حازم صاغية قبل إيراده ما قاله محمد أسد في حكمه التعميمي على المستشرقين، تضمن معلومات غير دقيقة، وهي:
برنارد لويس في مقاله (مسألة الاستشراق) الذي ذكر فيه واقعة جرت في مدينة كراتشي حينما كانت هي عاصمة جمهورية باكستان الإسلامية، لم يكن يتحدث عن «البدايات الأولى للحملة على الاستشراق» أو عن متى وكيف بدأ موقف الرفض الكلي للاستشراق في العالم الإسلامي. فالرفض الكلي للاستشراق عند جماعات من مسلمي القارة الهندية له تاريخ طويل ومتصل، ترجع بداياته إلى سنوات في القرن التاسع عشر.
إن برنارد لويس مهَّد لذكر تلك الواقعة في مقاله (مسألة الاستشراق) بالقول: «في الواقع أن الهجوم على الاستشراق لم يكن جديداً في العالم الإسلامي. فقد مر هذا الهجوم بعدة مراحل سابقة، حرَّكتها عدة مصالح وبواعث مختلفة. وكان أول انفجار حصل بعد الحرب العالمية الثانية ذا أصل غريب يدعو للدهشة. وكان مرتبطاً ببداية ظهور الطبعة الثانية من (إنسكلوبيديا الإسلام). وهو المشروع الأعظم للاستشراق في مجال الدراسات الإسلامية».
فهو يروي واقعة حصلت في كراتشي بعد سنوات قليلة من نهاية الحرب العالمية الثانية. وهذه الواقعة التي في إحدى حواشي مقاله التي أحال فيها إلى صحف باكستانية كانت تصدر باللغة الإنجليزية، يفهم من هذه الحاشية أن الواقعة جرت في عام 1955، وليس في عام 1950، كما فهم حازم صاغية –خطأ– من متن المقال، مع أن برنارد في مقاله لم يذكر أن الطبعة الثانية من تلك الموسوعة صدرت في عام 1950. فهو ذكر –فقط– تاريخ بداية العمل عليها، وهو عام 1950.
المُلمُّ بتواريخ تلك الموسوعة يعلم أن الطبعة الثانية صدرت في عام 1954.
مسلمو الهند كانوا مشدودين للتجربة العثمانية مع أنهم لم يكونوا يوماً جزءاً من الإمبراطورية العثمانية. وكانوا يفرحون لانتصارات العثمانيين في الحروب ويحزنون لهزائمهم فيها. حين شاع خبر بأن الغازي مصطفى كمال سيقدم على فصل السلطنة عن الخلافة في تركيا، ذهب وفد من علماء الهند إلى بريطانيا عام 1919، ليناشدوا الحكومة البريطانية إقناع الغازي مصطفى كمال بأن يحتفظ الخليفة العثماني بسلطته الدنيوية، وأن يضمن استمرار سلطته الدينية على الحرمين الشريفين في الحجاز، فلم تستجب الحكومة البريطانية لطلبهم هذا. وحين عادوا إلى الهند أسسوا في شهر سبتمبر (أيلول) من ذلك العام (حركة الخلافة). وهذه الحركة كان هدفها تقوية موقع ومركز السلطان العثماني، والحؤول دون أن يفصل الدنيوي عن الديني في موقعه ومركزه لكيلا يكون مجرد سلطان صوري.
المودودي حين كان منضماً لتلك الحركة، وهو بين سن المراهقة وسن مطلع الشباب، كان أوَّل كتاب ألَّفه كتاب (الحركات التبشيرية في تركيا) وترجم كتاب (مجازر اليونانيين في سمرنا) من اللغة الإنجليزية إلى اللغة الأوردية. وللحديث بقية.