الحرب الدائرة راهناً في غزة ليست قاسية ودامية فقط، ولكنها أيضاً مُلتبسة ومُحيرة لكثيرين في مناطق العالم المختلفة؛ ولأنها كذلك، فإن الآراء تنقسم حيالها، والمواقف تتصادم إزاء طرفيها.
إن هذا الانقسام حقيقة بكل تأكيد، فمع وجود هؤلاء الذين ما زالوا يدافعون بضراوة عن «حق إسرائيل في الدفاع عن نفسها» مهما فعلت، وأولئك الذين يصرخون بمرارة بسبب سقوط الضحايا المدنيين الأبرياء كل يوم تحت آلة القصف الإسرائيلية؛ تبدو الحكومات، والمؤسسات، والرأي العام العالمي جميعاً في حالة تضارب إزاء الحرب، والموقف من طرفيها.
وبينما يحق لكل فرد في هذا العالم أن يعبِّر عن رأيه إزاء تلك الحرب، وأن يقدم الدعم، أو يكيل الاتهامات، لأي من طرفيها - عبر حساباته الشخصية في مواقع التواصل الاجتماعي- يبدو أن الصحافيين الذين يعملون في مؤسسات إعلامية احترافية مجردون من هذا «الحق أو يفتقدون هذه «الميزة».
وللتدليل على ذلك، تبرز حادثتان متشابهتان وقعتا خلال الشهر الحالي، وإحدى هاتين الحادثتين وقعت في ألمانيا، حينما قررت هيئة الإذاعة والتلفزيون في جنوب غربي البلاد (إس دبليو آر)، إيقاف المذيعة ذات الأصول السورية، هيلين فارس، عن العمل بسبب دعوتها عبر «إنستغرام» لمقاطعة المنتجات الإسرائيلية، اعتراضاً على السلوك الذي تتبعه الدولة العبرية في هذه الحرب، وتضامناً مع الضحايا الفلسطينيين.
وعلى الجانب الآخر من الأطلسي، وقعت الحادثة الثانية في الولايات المتحدة الأميركية، حين قرّرت صحيفة «نيويورك تايمز» مراجعة عقدها مع الصحافية الإسرائيلية «المستقلة» أنات شوارتز، بعدما أيدت تلك الأخيرة منشوراً على موقع «إكس»، يدعو إلى تحويل قطاع غزة «إلى مسلخ» في حال أُصيب أي إسرائيلي بأذى.
ولقد استخدمت الهيئة الألمانية عبارات مشابهة تماماً لتلك التي استخدمتها الصحيفة الأميركية، حينما كان لزاماً عليهما تسويغ القرارين الحادّين المُتخَذين ضد الصحافيتين؛ إذ قالت «إس دبليو آر» إن السلوك الذي اتبعته الصحافية، فارس، إنما «ينتهك مبدأ الحياد؛ لتضمنه وجهة نظر سياسية يمكن أن تمس استقلالية الهيئة»، بينما رأت «نيويورك تايمز» أن سلوك الصحافية شوارتز يمثل «انتهاكاً غير مقبول لسياسة المؤسسة؛ ما يستلزم إخضاع الأمر لمراجعة دقيقة».
لا يمكن قول إن البيئة الصحافية والسياسية في ألمانيا متناقضة مع نظيرتها في الولايات المتحدة إزاء حرب غزة أو إسرائيل والفلسطينيين؛ إذ يبدو أن الدولتين بين الأكثر اتساقاً في هذا الصدد؛ ولذلك، فالأرجح أن ثمة اعتبارات مهنية جدية تقف وراء هذين القرارين، لأن فارس وشوارتز ببساطة كانتا على النقيض تماماً في موقفيهما؛ إذ مالت إحداهما بشدة نحو تأييد الفلسطينيين، بينما كانت الثانية تقف بوضوح في صف إسرائيل.
أما الحسابات المهنية الجدية التي سوّغت هذين القرارين، وجعلتهما قابلين للفهم أو التقبل في بيئات صحافية كثيرة، فليست سوى مبدأ النأي بالنفس عن التورط في الانحياز لأحد طرفي أي صراع يمثل موضوعاً للتغطية للوسيلة الإعلامية، ما دامت تدعي لنفسها الاستقلالية والحياد، وتنشد الموضوعية في التغطيات التي تقدمها لجمهور يحمل مواقف متباينة إزاء الأطراف المتصارعة.
فمن الصعب جداً أن تدعي وسيلة إعلامية تتبع قواعد عمل احترافية أنها تغطي الموضوعات الشائكة والملتبسة بحياد، وأنها تقف على مسافة واحدة من أطراف الصراعات، من دون أن تُلزم العاملين بها بعدم إظهار انحيازاتهم أو التعبير عنها عبر وسائل التواصل الاجتماعي؛ لأن ذلك يمكن أن يزعزع اليقين في سلامة المواد الإخبارية التي تقدمها، وأن يقوض نهجها الموضوعي المُفترض.
سيرى بعض النُّقاد أن معاقبة الصحافيين على الآراء التي يبدونها عبر حساباتهم الشخصية على مواقع التواصل الاجتماعي تمثل انتهاكاً لحقوقهم، وإسكاتاً لأصواتهم. وهذا بالضبط هو ما احتجت به الصحافية فارس، حين قالت إن «وسائل الإعلام الألمانية تحاول إسكات الأصوات الناطقة باسم فلسطين، ولهذا نحن بحاجة إلى التحدث أكثر، وبصوت أعلى».
وسيعتقد آخرون أن قرار «نيويورك تايمز» بمراجعة عقد شوارتز إنما يمثل محاولة للتعمية على تقرير «فاسد» شاركت في إعداده سابقاً، متهمة من خلاله «حماس» بارتكاب اعتداءات جنسية، خلال هجماتها في 7 أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، وهي الاتهامات التي لم تحظ بأي أدلة، وعُدَّت «كاذبة» بامتياز. ومع ذلك، فإن قرار كل من الهيئة الألمانية والصحيفة الأميركية يبدو صحيحاً ومُتسقاً ومفهوماً؛ إذ لا ينبغي أن يُترك للصحافيين العاملين في الأخبار - في المؤسسات التي تعتمد قواعد عمل احترافية، وتمتثل لمعايير استقلالية تحريرية مُعلنة - المجال سانحاً، لزعزعة الثقة بعمل مؤسساتهم، عبر إبداء آراء شخصية لا تعكس المبادئ التحريرية لتلك المؤسسات، أو تخدم نزوعها المهني.