في ردّ محمد يوسف نجم على لويس عوض الذي قال فيه عن كتابة محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد الإسلامية: «الذي أتصور أنها كانت تأييداً، غير مقصود، لهذا التيار الذي مثّله الإخوان المسلمون، والذي بلغوا فيه حد التطرف»، كان قد أخطأ في هذا الرد؛ أخطأ فيه لأنَّ مؤلفات الإخوان المسلمين في التاريخ الإسلامي متأخرة في الزمن عن كتابة هؤلاء فيه.
هذا الخطأ في المعلومة الذي بنى عليه نجم تخمينه التفسيري الذي يجهل محمد محمود عبد الرازق مجانبته للحقيقة أراد أن يستفيد منه في الدفاع عن تفسير لويس عوض الإخواني في اتجاه تلك الأسماء إلى الكتابة في التاريخ الإسلامي. وفي سبيل الدفاع عن تفسير لويس عوض الإخواني أغار على ما جاء من كلام لمارسيل كولمب في الفصل الخامس من كتابه، «تطور مصر من 1924 إلى 1950»، وانتهبه لنفسه في مقاله، «دفاع عن موقف». وبتاريخ 1 يناير (كانون الثاني) 1973 - وهو التاريخ الذي نشر مقاله في مجلة «الآداب» - كان الكتاب لا يزال حديث الإصدار باللغة العربية.
في جملته الاعتراضية التي نص فيها على اسم مارسيل كولمب، وهي: «كما قال مارسيل كولمب»، جعله يقول بالتفسير الذي قال به لويس عوض في محاضرته الأميركية «التطور الثقافي في مصر منذ 1952»، وبعد حذف واجتزاء لكلام مارسيل كولمب، أظهر أن كل كلامه هو (حصراً) عن الإخوان المسلمين!
مارسيل كولمب في كتابه، وفي فصله الخامس، قبل أن يقدم تفسيره لاتجاه محمد حسين هيكل وطه حسين والعقاد إلى الكتابة في التاريخ الإسلامي، كان كتب اثنتين وعشرين صفحة تحدث فيها عن تاريخ المحافظة الإسلامية في مصر في مقاومتها لدعاة التجديد. وتحدث إلى جانب ذلك عن تاريخ التجديد أو محاولات علمنة الدولة والدين فيها.
سأنقل من مارسيل كولمب ما قاله عن موضوعين في عرضه لتاريخ المحافظة الإسلامية في ثلاثينات القرن الماضي وأربعينات القرن الماضي، لصلة بينهما لم يكن يعلم بها، سأفصح عنها في تعليقي على الموضوع الثاني.
يقول مارسيل كولمب: «وفي نفس الوقت ثم لسنوات قادمة، كانت بعض الصحف المستريبة على الدوام - التي تثور لأبسط الأمور - لا تفتأ توجه الاتهامات لمستشرقي أوروبا. وكانت أسماء، مثل مرغليوث وبرونو وسنوك هرجونج، تُذكر بوصفها أسماء مخربين خطرين على الإسلام يتهجمون - تحت ستار من ادعاء العلمية - على القرآن، وعلى حياة محمد بهدف أن يهيئوا للمبشرين وللاستعماريين حججاً منطقية في مظهرها كي تزعزع إيمان المسلمين. ولكي تجعلهم يحيدون عن ارتباطهم بدينهم. ومن بين هؤلاء المستشرقين جميعاً استأثر العالم الهولندي فنسنك بأشد الانتقاد والهجوم، لأنه كان قد كتب في (دائرة المعارف الإسلامية) مقالين عُدّ أحدهما قذفاً في حق النبي إبراهيم، كما عُدّ الآخر قذفاً في حق الكعبة».
إنه يشير هنا إلى اتهامات مثقف بعينه للمستشرقين. هذا المثقف الذي لم يذكر اسمه هو الطبيب حسين الهرّاوي، مفتش صحة مصر القديمة؛ فحسين الهراوي هو الذي تصدى لتوجيه اتهامات ومطاعن في مرغليوث وبرونو وسنوك هيرغرونج (سنوك هرخرونيه)، وذلك في مقالات نشرها في مجلة «المعرفة».
وقول كولمب إن المستشرق الهولندي فنسنك استأثر بأشد الانتقاد والهجوم هو قول غير دقيق؛ فحسين الهراوي وجّه (أيضاً) نقداً عنيفاً لمرغليوث. وأوسع له مساحة من نقده العنيف لا تقل في حجمها عن المساحة التي خصصها لنقده العنيف لفنسنك، وهو بدأ بنقده قبل أن يبدأ بنقد فنسنك. والمرة الأولى التي تعرض له بالنقد كانت في مقاله «نحن المستشرقون: الأنانية القومية وتحرير الفكر»، المنشور في 1 فبراير (شباط) 1932. وهذا المقال كان سبباً في أن يحصل نقاش بينه وبين زكي مبارك حول المستشرقين وكتاباتهم عن الإسلام وعن تاريخه.
يختلف نقده لفنسنك عن نقده لمرغليوث في الأثر الذي أحدثه نقده للأول. فنقده للأول أثار ضجة حوله، صدر على أثرها مرسوم ملكي بالاستغناء عن عضويته في المجمع اللغوي الملكي، واختيار اسم آخر حل مكانه.
وقبل صدور هذا المرسوم الملكي، تحدث وزير هولندا المفوض بالنيابة إلى مندوب جريدة «الأهرام» (جريدة «الأهرام» هي التي كانت نشرت مقالي الهراوي النقديين عن فنسنك في عام 1933)، وأخبره أن فنسنك اتصل به وكتب إليه أنه يحترم الإسلام، ولم يطعن فيه، وأنه لا حرج على الباحث العلمي أن يتحرر من القيود، ومما يثبت احترام فنسنك للإسلام عنايته بعمل فهرس للأحاديث كلها.
نقد الهراوي لسنوك هيرغونج (هرخرونيه)
كان افتتاحية لنقد فنسنك ولـ«دائرة المعارف الإسلامية» التي سبق له أن هاجمها في مقالاته عن المستشرقين في مجلة «المعرفة».
يقول في هذه الافتتاحية: «سنوك هرجونيه هو رئيس أكاديمية هولاندا. ومكث سبعة عشر عاماً في جاوه مستشاراً للحكومة في الشؤون الإسلامية. وقيل لنا إنه أتقن العربية وادعى الإسلام وسافر إلى مكة ومكث فيها خمسة أشهر. وكان يأتم المسلمون به في صلاتهم. وفنسنك تلميذه وساعده الأيمن الآن في هولاندا. وفنسنك رئيس تحريرها (دائرة المعارف الإسلامية) التي ملؤها الطعن الجارح في الإسلام والحشو بأقذر المثالب. يحرر جماعة من المستشرقين، ومنهم مبشرون وقسس، وخصوصاً الأب لامنس».
هجوم الهراوي على فنسنك كان سببه (كما أخبر هو ذلك) اعتراضه على اختياره حين تأليف المجمع اللغوي الملكي عضواً فيه.
أما برونو الذي كتب الهراوي اسمه بهذا الرسم: برينو، فلا أعرف إن كان من المستشرقين أم هو مجرد خواجة يتكلم العربية. هذا البرونو أو البرينو، ذكر الهراوي في مقاله «المستشرقون وضررهم على الإسلام والشرق»، المنشور في مجلة «المعرفة»، بتاريخ 1 يونيو (حزيران) 1932، أن له كتاباً يُدرَّس للطلبة الفرنسيين باللغة العربية. واستشهد بفقرة منه فيها سخرية واستهزاء باللغة العربية الفصحى وبالحور العين بالجنة.
لا يخلو قول كولمب: «كانت بعض الصحف المستريبة على الدوام - التي تثور لأبسط الأمور - لا تفتأ توجه الاتهامات لمستشرقي أوروبا» من نزعة إلى حجر التفكير في إبداء رأي آخر بكتابات المستشرقين.
إن جريدة «الأهرام» التي نشرت مقالي الهراوي في الهجوم على فنسنك في أواخر شهر أكتوبر (تشرين الأول) سنة 1933، ومجلة «الهلال» التي في عددها 1 يناير 1934 نشرت رأي الهراوي المعادي للمستشرقين ورأي زكي مبارك الذي رأى أن نفعهم أكثر من ضررهم تحت عنوان «رأيان متعارضان... هل ضرر المستشرقين أكثر من نفعهم؟»، لا تصنفان - من الناحية الفكرية - بأنهما من الصحف والمجلات «المستريبة» في كتابات المستشرقين.
وجريدة «البلاغ» التي كانت قبل شهرين من مجلة «الهلال» نشرت مقالاً لزكي مبارك رد فيه على مقالي الهراوي في جريدة «الأهرام»، مدافعاً عن سنوك هيرغرونج وعن المستشرقين، هي (أيضاً) لا تدخل ضمن نطاق هذا التصنيف.
وكان زكي مبارك في جريدة «البلاغ» قبلها بما يقرب من السنتين قد رد على مقال الهراوي الأول في مجلة «المعرفة» الذي شن فيه هجوماً على المستشرقين، والذي ذكرت سالفاً عنوانه. وعقّب الهراوي على ردّه برد في مقال عنوانه «نحن والمستشرقون: رد على الدكتور زكي مبارك»، نُشِر في مجلة «المعرفة» بتاريخ 1 مارس 1932، ثم كتب زكي مبارك مقالاً في مجلة «المعرفة» عنوانه «فضل المستشرقين على اللغة العربية»، راجياً أن يكون كلمة ختامية في موضوع الاختلاف بينهما، لكن الهراوي لم يشأ له أن يكون كذلك، فكتب في المجلة نفسها ردّاً على مقال زكي بارك الذي كان قد تمنى له أن يكون المقال الختامي.
وفي تلك الفترة، تحديداً في 8 مايو (أيار) و8 يوليو (تموز) سنة 1932 في «ملحق السياسة الأدبي»، كتب الهراوي في الموضوع نفسه مقالين، هما: «أثر المستشرقين على البحث الإسلامي»، و«المستشرقون والمبشرون كيف نرد عليهم».
وجريدة «السياسة» مع أن رئيس تحريرها كان في تلك المدة يمر بمرحلة تحول ناحية الغرب وناحية المستشرقين، إلا أنها ورئيس تحريرها ليسا في موقف المنابذ لكتابات المستشرقين، كما هو موقف الهراوي. فأحد مقالَيْه كان نقداً لمحمد حسين هيكل لتعويله على المستشرق إميل درمنغم في كتابته للسيرة النبوية.
نأتي الآن لمجلة «المعرفة» التي انطلقت منها حملة الطبيب المثقف حسين الهراوي العاصفة على المستشرقين.
مجلة «المعرفة» مع أنها (كما يقول صاحبها الكاتب عبد العزيز الإسلامبولي) تتهم عند فريق بالجمود في الرأي، والتعصب للدين، والتمسك بالدين إلا أنها (كما قال دافعاً هذه التهمة) أفسحت صدرها لكل رأي مخالف لرأي صاحبها. وضرب مثلاً لذلك نشر اعتراض مرغليوث على ما كتبه من مقالات حول كلمة صوفي.
والأكيد أن هذه التهمة وجهت لهذه المجلة، لعناية صاحبها بالفلسفة الإسلامية، واحتفائه بالتصوف الإسلامي، ودعوته إلى الرابطة الشرقية، وإلى الجامعة الإسلامية.
ومما يعزز صدق دفاعه عن نفسه وعن مجلته أنه كان بينه وبين مرغليوث مراسلات ودية، وكان مرغليوث مِن المشتركين في المجلة.
كما أنه في أحد أعداد مجلته، كان قد نشر صورة لمرغليوث وأشاد بذكره وعمله. وفي مقال للهراوي في الرد على زكي مبارك استنكر هذا الصنيع استنكاراً عظيماً. وفي العدد نفسه رد عليه الإسلامبولي تحت عنوان: «نحن والمستشرقين أيضاً»، وأبان أن موقفه من المستشرقين مختلف عن موقفه جداً.
وبحكم صداقة المراسلة بين الإسلامبولي ومرغليوث تمنى الأول على الثاني أن يرد على نقد الهراوي لكتاباته هو وخاصة لكتابات المستشرقين عامة، فأجابه مرغليوث بخطاب قال فيه: «أما ما كتب الدكتور حسين الهراوي في ذم المستشرفين، فلو كان أودع مقالته من الشخصيات تعلق بالآداب لم يكن ما يمنع من الخوض في الموضوع والتمييز بين الخطأ والصواب. وأما المسائل التي ذكرها فلست أرى فائدة في مداخلتها لكونها أقرب إلى منبر الخطابة منها إلى مجالس الأدباء».
وفي مناقشة خاصة بين الهراوي والإسلامبولي حول كتابات المستشرفين، استدل الإسلامبولي على خطأ كتاباته عنهم برأي مرغليوث في مقالاته، وأطلعه على الخطاب.
هذه المحادثة ذكرها الهراوي، وأورد بعدها نص خطاب مرغليوث للإسلامبولي في مفتتح مقالته «المستشرقون وضررهم على الإسلام: بيني وبين مرغليوث» المنشور في مجلة «المعرفة» بتاريخ 1 أكتوبر 1933.
الهراوي في كتابه «المستشرقون والإسلام» الصادر عام 1936، قال عن مقاله هذا مفاخراً: «ولما نشرت (المعرفة) هذه المقالة للرد على مرغليوث. قطع اشتراكه من المجلة، ولم يعد يراسل صاحبها. وكان هذا هو الجواب. فتأمل!!». وحق لمرغليوث أن يفعل ذلك؛ فهو قد اعتذر من الإسلامبولي في خوض نقاش مع الهراوي، بخطاب بعثه له، بغفلة صوفية يزود الهراوي به، وبتلك الغفلة يفسح نشره على الملأ، مع أنه خطاب خاص وشخصي موجَّه له. وللحديث بقية.