الحرب التي تشنها الولايات المتحدة ضد تطبيق «تيك توك» للفيديوهات القصيرة، ليست معركة لحماية بيانات الشعب الأميركي من الوقوع في يد الحزب الشيوعي الصيني، كما تقول واشنطن، وإنما للسيطرة على تلك البيانات واستخدامها.
العنوان هو منع الصين من التجسس على بيانات المستخدمين الأميركيين، لكن الجميع يعلم أن جميع وسائل التواصل الاجتماعي والتراسل الإلكتروني توظّف، وتبيع بيانات المستخدمين لأغراض مختلفة، ولجهات متعددة، فلا يوجد في الفضاء الإلكتروني حصن منيع للخصوصية مهما كانت...!
يقول بعضهم إن الهدف هو كبح جماح التمدد الصيني، خاصة أنه يجتاح سلمياً القارة الأميركية معقل الرأسمالية، ويستولي على مناطق النفوذ الغربي... مع حشد مليار مستخدم لهذا التطبيق... لكن هل يأمن الأميركيون فعلاً ردة الفعل الصيني؟ قبل شهور من رحيله، حذّر هنري كيسنجر من حرب باردة أخرى مع الصين، قال إن هذا التنين أصبح أقوى. وقال في مقابلة مع صحيفة إسبانية إن الصين والولايات المتحدة «لديهما موارد اقتصادية متشابهة، وهو ما لم يكن عليه الحال خلال الحرب الباردة الأولى... (بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي)... فالحرب بين واشنطن وبكين يمكن أن تُسقط الحضارة، بل يمكن أن تدمرها تماماً».
الصينيون لديهم أعمق تاريخ عرفته البشرية في إدارة الحروب ذات النفس الطويل. كتاب «فن الحرب» الذي يمثل منهجاً لإعداد الخطط الحربية، كتبه الجنرال الصيني، سون تزو، أثناء القرن السادس قبل الميلاد، وظلّت تعاليم الكتاب ميراثاً إنسانياً في الإعداد العسكري والتخطيط، والانضباط، وتحقيق الانتصار.
وكما في كل المعارك، فإن لهذه المعركة وجهاً ثقافياً بارزاً... هو الرغبة في امتلاك أدوات التوجيه والسيطرة على المعلومات التي يتغذى منها المستخدم خاصة في الولايات المتحدة. هناك رغبة حازمة من قبل «المؤسسة» أو «الأخ الأكبر» كما في رواية «1984» لجورج أورويل، في الهيمنة على مصادر المعرفة والوصول للبيانات.
يجري التلويح بسذاجة بالغة بشأن تعاظم الخطر الصيني، ثمة هواجس تقول: إن عشرات الآلاف من السيارات الكهربائية المرتبطة بشبكات الإنترنت في لندن وباريس يمكنها ليس فقط أن تصبح كاميرات ووسائل نقل مباشر والتقاط المعلومات ونقلها لبكين، وإنما يمكنها أن تتحول إلى أدوات حرب... ماذا لو قررت الصين شلّ الحركة في لندن أو باريس عبر إطفاء محركات تلك السيارات آلياً، وسط شوارع مزدحمة؟...
ما تفعله الولايات المتحدة أنها أصبحت تحاكي الحزب الشيوعي الصيني الذي تميّز نفسها عنه، حتى في سردياته الفجة. الصين هي الأخرى تحظر تطبيقات التواصل الاجتماعي الغربية، وتمنع شعبها من الوصول إلى «فيسبوك» و«إنستغرام» و«واتساب» وغيرها، وهي أيضاً تقول إنها تحمي البيانات، ولكنها في الحقيقة لا تريد أن يشاركها أحد في استغلال تلك البيانات ولا في توجيه الرأي العام لديها...
ابتكر جورج أورويل في روايته «1984» مصطلح «الأخ الأكبر»، ووضعه رمزاً للسلطة التي تمارس التسلط والقمع الممنهج، وتتجسس على شعبها وتراقب الأفراد، وتنتهك الحريات المدنية الخاصة بالناس. فـ«صورة الأخ الكبير، واحدة من تلك الصور المرسومة على نحو يجعل المرء يعتقد أن العينين تلاحقانه أينما تحرك». حرية الوصول للمعلومات هي واحدة من أركان الديمقراطية، وجزء من النظام الليبرالي الغربي، لكن أي معلومات؟ وأي حقيقة؟ هذا هو السؤال، ما يحدث أن المتخاصمين في واشنطن وبكين كلاهما يصنع حقيقته الخاصة ويسوقها، لا يريد للسردية السائدة أن تُنتَهك أو يجري التشكيك في طهارتها... يقول جورج أورويل: «إذا كان الآخرون جميعاً يقبلون الكذبة التي يفرضها الحزب... وإذا كانت السجلات كلها تسجل الكذبة نفسها، فإن تلك الكذبة تصبح تاريخاً، وتصبح حقيقة...!».
ليس بعيداً عن جورج أورويل، يقدم مواطنه الأديب والفيلسوف الإنجليزي ألدوس هكسلي في رواية «عالم جديد شجاع» رؤية مختلفة للتسلط الناعم؛ إذ يتم توظيف العلم والتكنولوجيا لإعادة صياغة الناس في قوالب من الطواعية والخنوع، مع برمجة عصبية تربط بين الوصول الحرّ والمستقل للمعلومات (الكتاب مثلاً) وبين الكوارث الطبيعية (الصواعق) حتى ينشأ الطفل كارهاً للمعرفة سوى تلك التي تسكبها السلطة في أذنه كل مساء. عند جورج أورويل السلطة قمعية خشنة، وعند هكسلي السلطة أكثر مكراً؛ إذ تجعل الناس يعشقون قمعهم.
معركة السيطرة على الرأي العام، لا هوادة فيها؛ لقد شاهدنا أخيراً كيف عجزت وسائل الإعلام والميديا الموجهة، في إقناع ملايين المشاهدين بتبني السرديات الرسمية بشأن ما يجري في غزة (مثلاً)، وقد لعبت وسائل التواصل دوراً خطيراً في تفنيد تلك الروايات وتحطيم أسطورة البيانات التي تكتسح الفضاء وتهيمن على قناعات الناس... هذا الفشل الذريع يجعل من تطبيق مثل «تيك توك» أداة خطرة لا يمكن إهمالها أو تركها في أيدي منافسين أو خصوم. وهذه هي الحكاية...!