د. ياسر عبد العزيز
TT

إنعاش الديمقراطية أم تقويضها؟

استمع إلى المقالة

لم يكن يدور بخاطر أعتى المتشائمين أن تتحول الفورة الإعلامية المعاصرة - التي بُنيت على اختراقات تكنولوجية مُذهلة - إلى قيد على تطور الديمقراطية، أو تهديد لمستقبلها.

لكن هذا ما يبدو مُرجحاً على أية حال؛ ما دام القائمون على إدارة شركات «الذكاء الاصطناعي»، ومُشغلو وسائط «التواصل الاجتماعي»، لا يُهذبون شراسة نماذج أعمالهم، ولا يُظهرون المرونة اللازمة لضبط أنشطتهم، وفقاً لمعايير واستحقاقات لا تتعلق بالرواج وتحقيق الأرباح فقط.

إن توجيه الاتهام لشركات «الذكاء الاصطناعي» و«التواصل الاجتماعي» بالإضرار بمستقبل الديمقراطية أمر ينطوي على مفارقة كبيرة؛ إذ إن أحد المسوّغات الجوهرية لتعزيز الاستثمار في مجالات التطوير التكنولوجي ووسائط الإعلام والاتصال كان يتعلق دائماً بتسهيل التواصل، ونقل الأفكار والمعلومات، وبلورة الرأي العام وزيادة إسهامه في عملية صنع القرار، ومنح الجميع القدرة على التعبير عن آرائهم؛ وكلها بالطبع من مستلزمات الديمقراطية وعوامل التمكين لها.

ولعل ذلك كان السبب في حالة الدهشة التي أصابت البعض حين اطلعوا على تقارير ونتائج بحوث جادة تشير بوضوح إلى مخاوف عميقة من التأثيرات الضارة لأنشطة «الذكاء الاصطناعي» وتفاعلات «التواصل الاجتماعي» على العملية الديمقراطية عموماً، وإحدى أهم أدواتها... أي الانتخابات.

لقد اتهم باحثون جادّون الفضاء الاتصالي الراهن بأنه «غير مُواتٍ لدعم العمليات الانتخابية»، بل ذهب البعض إلى أنه «قد يقوّض نزاهتها»، خصوصاً بعدما أكدت تقارير صادرة عن مؤسسات دولية معنية أنها رصدت تدخلات اتصالية وإعلامية مشبوهة في نحو 90 في المائة من العمليات الانتخابية التي يشهدها العالم سنوياً.

وكما تقول وحدة الاستخبارات في «إيكونومست»، فإن العام الحالي 2024 هو «عام انتخابي بامتياز»، إذ ستجرى الانتخابات في نحو 70 دولة، يعيش فيها 4 مليارات إنسان؛ أي نحو نصف سكان العالم؛ وهؤلاء سيقترعون ليحدّدوا أسماء من يحكمهم أو يمثلهم؛ وهو أمر سيحدث في دول مثل الولايات المتحدة الأميركية والهند وروسيا... وغيرها.

من المُفترض أن تدفع تلك الأنباء إلى التفاؤل، إذ يبدو أن «الديمقراطية تتقدم باطراد، وشاهدها الإجرائي المتمثل في الانتخابات التنافسية يُثبت ذلك، وها هم نصف سكان العالم يقترعون في عام واحد، ليرسخوا الثقة بالعملية الديمقراطية، ويعبروا عن إرادتهم الحرة»، لكن تلك الإرادة تتعرض، للأسف الشديد، لاستهداف مرتفع الحدة، ويجري التلاعب بها عبر طيف عريض من الوسائل؛ بدءاً من أكاذيب القادة والمرشحين، ومروراً بالدعاية بألوانها المختلفة، ووصولاً إلى الأخبار المُضللة والصور المُصطنعة و«التزييف العميق».

عندما تشيع الصور المُضللة والفيديوهات المُختلقة في وسط اتصالي يواكب عملية انتخابية، فإن ما يصل إلى الجمهور هو واقع مُصطنع ومُوازٍ، وعندما يستند الجمهور إلى الإفادات والمعلومات التي تلقاها تلك، ستتشكل رؤيته، وسيتخذ قراره، وسيصوت في الاتجاه الخطأ.

لن يكون بوسع القائمين على شركات «الذكاء الاصطناعي» إنكار مسؤوليتهم عن استخدام مقدرات هذا «الذكاء» في عملية التضليل، لأن أنموذج أعمال شركاتهم يقوم على «الاصطناع» ببساطة، لكن دخول هذا الأنموذج إلى عالم الانتخابات سيحوّلها إلى ساحة للقتال بأدوات التزييف، وصناعة الصور المُختلقة للمرشحين، وتقديمها للجمهور بوصفها قطعاً من الحقيقة.

ستقول تلك الشركات إنها تحظر تصميم صور مُصطنعة لسياسيين، أو إنها تمنع استخدام منتجاتها بشكل ضار في العمليات الانتخابية، لكن باحثين في «مركز مكافحة الكراهية الرقمية» الأميركي أكدوا أن بعض تلك الأدوات ما زالت تصمّم صوراً مزيفة لجو بايدن ودونالد ترمب وآخرين، وأن هذه الصور يمكن أن تؤثر في وجهات نظر الناخبين واتجاهات تصويتهم في الانتخابات الأميركية المنتظر إجراؤها هذا العام.

لن يكون بوسع شركات «الذكاء الاصطناعي» الإضرار بنزاهة الانتخابات وحدها، لكنها ستظل بحاجة ماسة إلى وسيط ينقل منتجاتها «المُصطنعة» إلى الجمهور من دون تدقيق أو مراجعة؛ ولذلك، فهي ستكون ممتنة جداً لوجود وسائط «التواصل الاجتماعي»؛ لأن تلك الأخيرة تُحجم عن بذل الجهود المناسبة لضبط نطاقات التفاعل عبرها، ما دامت تحقق مزيداً من الأرباح.

لذلك، علينا أن نتوقع بروزاً كبيراً لأنشطة «الذكاء الاصطناعي» في «عام الانتخابات الكبير»، وأن نتوقع أيضاً أن دور تلك الأنشطة قد يعمق الشكوك في نزاهة هذه الانتخابات.

إذا تُرك الحبل على الغارب لإدماج منتجات «الذكاء الاصطناعي» في المواكبة الإعلامية للعمليات الانتخابية من دون ضبط، فإن قرارات قطاعات من الناخبين ستكون مُستندة إلى وقائع مزيفة، وهو أمر يلقي بظلال قاتمة على مستقبل الديمقراطية.

وعليه، من الضروري اتخاذ خطوات سريعة وجادة من قبل المُشرعين، والحكومات، ومجتمع الأعمال العالمي، نحو إلزام شركات «الذكاء الاصطناعي» باتخاذ خطوات فنية وتنظيمية وقانونية، للحد من التدخلات الضارة لمنتجاتها في مسار العمليات الانتخابية.