كانَ الطيب صالح يقول: «أنا أطرب للشرف، ويأسرني النُبل». ولا شكَّ أنَّه كان عاشقاً لأبي الطيب المتنبي، لذلك لا أحسبني أتَقَوَّلُ عليه إن تصورت جملته، هكذا: «أنا أطرب للشرف، ويأسرني النُبل، ولذلك أَعشق المتنبي».
إنَّما قال الطيب صالح ذلك، لأنَّه عالمٌ بمواضع الشرف، في شعر المتنبي، عاملٌ بما حوته أبيات أبي الطيب من نصائح ترتفع بمراتب النفوس، وتعلو بالأفعال لنيل الشرف، وترتقي بالأفكار إلى موضع لا يقنع الصاعد فيه، بغير النجوم عُلواً.
ألم يقل المتنبي:
إذا غَامرتَ في شَرَفٍ مَرومٍ فلا تَقنَع بِمَا دونَ النجومِ
وغامرت: أي دخلت في الغمرات، وهي جمع غمرة: أصلها الشيء الذي يغمر الأشياء فيُغَطِّي، ثم وُضِعت في موضع الشدائد والمكاره، لأن الشدائد إذا أصابت المرء غمرته وأغرقته فيها، فلا همَّ غير همها. و«الشَّرَفُ، مُحَرِكُهُ: العُلُو، والمكان العالي»، كما في «الكليات». فلا تُحَرِّكُ الدنيئات شرفاً، ولا تناسب الدنايا شريفاً. ومروم: أي مطلوب لعلوه. فشبَّه الغايات المطلوبة العالية، بالنجوم في السماء، بجامع العلو، والرفعة، والسمو.
في «الذخائر والعبقريات»: «إذا حاولت الشرف وخاطرت بنفسك في سبيل الحصول عليه فلا تقنع بما دون أعلاه، ولا ترض باليسير منه، فلا سبيل للمغامر إلا أن يقصد إلى أسمى الأمور».
إنَّ في هذا البيت ما يُظهر بجلاء إصرار المتنبي على السعي للعلياء، وأسمى سعي المرء ما يؤكد به شرفه، إذ تهون المخاطر مهما عظمت، من أجل الشرف.
ها قد عدنا للحديث عن الشرف، فشاعرٌ مثل أبي الطيب، يتجسَّد في شعره نزوحه الكامل تجاه ما يحقق الشرف، واستعداده الصادق لتكبد المشاق في سبيل بلوغ هذه الغاية السامية، ليس بغريب أن تعشقه، وأنت تطرب للشرف!
د. غازي القصيبي، يقول: «لفت نظري ما يكتبه الأستاذ الطيب صالح، ثم جاءت حلقات المتنبي دُهشت، فهنا أبيات تُشرح على وجهها لأول مرة، وهنا مرارات في نفس المتنبي لم أرها من قبل».
وضمن لطائف الطيب صالح، اختيار كلمة «عيباً»، في قوله:
ولم أَرَ في عيوبِ الناسِ عيباً كنقص القادرينَ على التمامِ
في «معجز أحمد»: «ليس في الإنسان عيب أقبح من أن يكون ناقصاً، مع قدرته على الكمال. وقيل: ليس عيب أقبح من الكسل». وعند ابن الأفليلي: «ولم أر في عيوب الناس عيباً أظهر وأبين، وعجزاً أبلغ وأمكن، من نقص من به على التمام أعظم قدرة، وخمول من له على الظهور أوفر قوة».
ويعتبر بيت المتنبي من الشعر المحرض على علو الهمة، وعاب الشاعر أصحابَ الهمم الدنية: وهي ما تورث في النفس إعراضاً عن طلب المراتب العالية، وكسلاً وتقاصراً عن السعي إلى بلوغ الغايات.
يقول المتنبي في الهمة:
وإذا كانت النفوس كباراً تعبت في مرادها الأجسامُ
وقال:
لولا المشقةُ سادَ الناسُ كلهم الجودُ يفقر والإقدامُ قتَّالُ
وقال:
تريدين إدراك المعالي رخيصةً ولا بدَّ دون الشَّهدِ من إبرِ النحلِ
وقال
من يهنْ يسهلِ الهوانُ عليه ما لجرحٍ بميتٍ إيلامُ
وأورد ابن عادل الحنبلي في تفسيره، بيت المتنبي (ولم أر في عيوب الناس عيباً)، ثم قال: «وقال تبَاركَ وتعالى: {أولئك كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] يعني: أَنَّ الأنعامَ مَعْذُورةٌ بسبب العَجزِ، وأَمَّا هؤلاء فقادِرُون فكان إعراضهم أفحشَ، فلا جرم كانُوا أَضَلَّ».
واستشهد أبو الفرج ابن الجوزي (ت 597 هـ) بالبيت، مع (عيباً)، في موضعين من كتابه «صيد الخاطر»، فقال: «من علامة كمال العقل عُلُوُّ الهِمَّةِ، والراضي بالدون دني»، ثم أورد البيت. وفي الموضع الثاني، قال: «من أَعمَلَ فِكرَهُ الصافي؛ دَلَّهُ على طَلَبِ أَشرَفِ المقامات، ونَهَاهُ عن الرضى بالنقص في كل حال»، ثم أورد البيت شاهداً، مترحماً على أبي الطيب.
اللهم آمين.