منذ وصل دونالد ترمب إلى سدة الرئاسة في الولايات المتحدة الأميركية، قبل 8 سنوات، تغيرت أشياء كثيرة في هذا البلد الذي ما زال يجتهد للحفاظ على قيادته ومكانته العالمية الفريدة، في ظل تنافس واضطراب وعدم يقين.
كانت رئاسة ترمب عاصفة جامحة خلخلت كثيراً من القواعد و«الثوابت» التي ارتبطت طويلاً بموقع الولايات المتحدة في النظام العالمي، كما أن ما تلاها من معركة انتخابية مُحاطة بالشكوك مع خلفه جو بايدن، كان باباً لمزيد من التساؤلات عن مدى ثبات المنظومة، واستقرار المؤسسات والثقة بالمبادئ التي ظلت تثير مشاعر الإعجاب والغبطة طويلاً في أصقاع العالم المختلفة.
لقد اهتم كثير من المحللين والنُّقاد بسبر غور التغيرات التي ألمّت بالبلد الأهم والأقوى عالمياً، وتوزّعت الاهتمامات في هذا الصدد على مناحٍ كثيرة؛ منها ما يتصل بمستقبل الديمقراطية الأميركية، في ظل الإغراء بها من قبل ترمب وبعض أنصاره، ومنها ما يتعلق بمدى قدرة النظام على صيانة وحدة البلاد في ظل انقسام واضح، ومنها أيضاً ما يختص بنجاعة المنظور السياسي الذي بدا أكثر براغماتية وتهافتاً مما تتحمله الصورة الذهنية، وأقل قدرة على الوفاء بحسابات الدور والمكانة.
لكنّ تغيراً جوهرياً طرأ أيضاً على آليات الاتصال التي يتبعها الرئيس الأميركي منذ وصل ترمب إلى الرئاسة، واستمر هذا التغير في رئاسة بايدن؛ وعنوانه يمكن أن يكون «سقوط الاتصال السياسي الرئاسي من الحُسبان».
نعم لقد سقط الاتصال السياسي الرئاسي من حُسبان المؤسسة السياسية الأميركية؛ سواء كانت هذه المؤسسة هي البيت الأبيض، أم مجموع الأجهزة والوزارات والوكالات الفيدرالية التي تُعنى بإدارة الشؤون الخارجية، ورسم صورة الولايات المتحدة حول العالم باستخدام الأدوات الاتصالية، ومنها الاتصال المؤسسي الرسمي في المجال السياسي.
لقد تغوّل ترمب على المؤسسات المعنية بضبط الخطاب الرئاسي وصياغته وتوزيعه، وشطب دورها من دون إعلان، وحوّل حسابه على «تويتر» سابقاً (إكس) حالياً، ناطقاً رئاسياً، ولم نعرف أنه أخضع ما يقوله عبر هذا الحساب - قبل حظره - لأي نوع من المراجعة أو الضبط أو المواءمة السياسية.
وعندما حُظِرَ على «تويتر»، وخسر الانتخابات الأخيرة، وبدأ في الإعداد لخوض جولة جديدة، أطلق منصته الاتصالية الخاصة، في تأكيد جديد على أنه سينهج النهج نفسه إذا ترشح للانتخابات المقبلة أو فاز بها.
سيمكن القول إن ترمب رجل من خارج المؤسسة التقليدية الحاكمة في واشنطن، ولذلك، فإنه لم يُقِم وزناً للنهج المؤسسي، وإن طبيعته الشعبوية وراء تحطيمه آليات الاتصال الحكومي المرعية، وإن هذا ربما يكون أحد أسباب إخفاقه أيضاً.
وقد كان بالإمكان الاقتناع بهذا التحليل بطبيعة الحال، لولا أن بايدن رجل المؤسسة التقليدية، ونائب أوباما «المُتصل العظيم، والمتحدث اللبق، الذي يزن كلماته بميزان الذهب»، فعل ما هو أسوأ، عندما راح يُخطئ، وينسى، ويتلعثم، ويسيء لعلاقات بلاده بدول أخرى، ويرتجل من دون قدرة على التركيز والضبط.
لا يُفوّت بايدن شهراً واحداً من دون زلة لسان أو هفوة مؤثرة، حتى اعتاد الناس زلات لسانه، فلم يَعُدْ كثيرون يأخذون ما يقوله على محمل الجد.
يبلغ بايدن من العمر 82 سنة، ويُرجح أنه مُصاب ببعض الأمراض التي تؤثر في الذاكرة، فتجعله ينسى الأسماء، أو يخلط بينها، لكن كل هذا لم يمنعه من الاستمرار في تقلُّد منصبه على رأس أقوى دولة في العالم، بل لم يمنعه أيضاً من إعلان رغبته في الترشح لولاية جديدة تنتهي عندما يكون في الـ86 من عمره.
في بعض زلاته؛ أفشى بايدن أسراراً عسكرية حساسة وخطيرة، وتحدث عن ضرورة عدم السماح بفوز الرئيس أوباما في الانتخابات مرة أخرى! بينما كان يقصد بطبيعة الحال سلفه دونالد ترمب.
تحول بايدن إلى آلة لإنتاج زلات اللسان والهفوات بشكل مستديم؛ ومن ذلك أنه كان يتحدث في حرم إحدى الجامعات الأميركية، عندما أنهى خطابه بعبارة «حفظ الله الملكة»؛ وهي عبارة اعتاد الخطباء البريطانيون، على مدى العقود السبعة الأخيرة، اختتام خطاباتهم بها، قاصدين الملكة الراحلة إليزابيث الثانية.
وأمام «البرلمان» الكندي، حيَّا بايدن الصين بدلاً من كندا، وأخيراً حذر روسيا، في كلمة ألقاها، من استمرار «هجومها غير الإنساني ضد روسيا»، قبل أن يُخطئ في وصف منصب الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، ويعُدّه رئيساً للمكسيك.
إن كلام الرؤساء ليس لعبة، وليس مجالاً للأخطاء المتكررة، وليس فرصة لاستعراض قدرتهم على الارتجال، بل هو جزء من خطاب الدولة المؤسسي الرسمي، والخطأ فيه مُكلف وقاسٍ، ومن العجيب أن الولايات المتحدة، بميراثها السياسي ومؤسساتها العظيمة، باتت في وضع لم تَعُدْ تدرك فيه ذلك.