عندما قصفت أميركا مواقعَ إيرانية وميليشيات في سوريا والعراق كانت المفاجأة، فعلى رغم استخدام القاذفات البعيدة المدى، لم نرَ ضربات أميركية مؤثرة مثل التي شاهدناها ضد تنظيم «داعش». هذا التفاوت ليس متعذراً فهمه، وبوسع المتابع العادي إدراجه في خانة «الضحك على الذقون». فعبارات الردع التي تطلقها أميركا، وعبارات محاربة «الشيطان الأكبر» الوافدة من طهران، أصبحت ممجوجةً وغير مقنعة؛ لأنَّ عبارة الردع ليست رادعة، ومحاربة الشيطان تحولت كذبةً كبرى بينما المتضررون، منذ قيام الثورة الإسلامية، وتحت يافطة تحرير القدس، هم أهل المنطقة، وبالذات أهل فلسطين الذين لم يروا صاروخاً إيرانياً يطير فوق رؤوسهم ليدمّر معلماً مهماً، ولا شاهدوا إيرانياً يسقط على أرض فلسطين. وهذا يعود إلى أن الحرب الدائرة بين أميركا تشبه بكثير من الأوجه تلك الحروب بين موسكو وواشنطن في زمن الحرب الباردة؛ آنذاك كانت جُلَّ حركات اليسار والشيوعيين والقوميين تُوجّه من موسكو، كما توجّه الآن حركات المقاومة، والتشيع، والميليشيات، من إيران؛ الفارق بينهما أنَّ أميركا كانت تواجه دولة عظمى نووية وراءها حلف وارسو بينما تواجه الآن أميركا ميليشيات متفرقة، وأسلحة متدنية النوعية، والفارق أيضاً أنَّ أي مواجهة بين واشنطن وموسكو كانت ستنطوي على فناء الجنس البشري، بينما لا شيء من ذلك القبيل في أي مواجهة مع إيران؛ فلماذا إذن هذا التردد الأميركي، ولماذا هذا الاسترجال الإيراني؟
يرجع التردد الأميركي إلى طبيعة المصالح الأميركية، وإلى التغييرات في التركيبة الدولية، وترتيب الأولويات. فالمصالح حتماً تتأثر بالتركيبة الدولية ولدرجة كبيرة؛ لأنَّ أميركا لم تعد القطب الأوحد، بل تواجه منافسين، ليس الصين فقط، بل دولاً إقليمية مثل الهند، والبرازيل، وتكتلات اقتصادية، ودعوات إلى إعادة إصلاح النظام الدولي المؤسس أميركيا ولخدمة هيمنتها على العالم؛ كما تواجه انبعاثاً قومياً دينياً روسياً في أوروبا يهدد تركيبة أوروبا التي جرَّت أميركا في التاريخ القريب إلى حربين عالميتين؛ لذلك ومن أجل حماية موقعها في تزعم التركيبة الدولية لا بد لها من إزالة أي منافسين جدد، وهذا يضطرها إلى إعادة ترتيب الأولويات وفق قاعدة الأهم ثم الأقل. وفي سلم الأولويات تتصدَّر الصين حتماً المرتبة الأولى؛ ولأجل ذلك توجهت إدارة أوباما نحو التمحور شرقاً لتطويق الصين، ولهذا تفاهمت مع إيران، لتفادي إشغالها، حول خطوط حمراء تضمن مصالح إيران شريطة ألا تضر بالمصالح الأميركية. برّر أوباما انحيازه لإيران بأنَّها تسيطر على جماعاتها الدينية المسلحة في المنطقة، وبوسعنا التفاهم معها لنتفرغ للصين، بينما الدول السنية لا سلطة لها على جماعاتها المتشددة. هذا المنطق الأعوج هو الذي دفع حلفاء أميركا إلى التشكيك بجديتها، وبتعهداتها؛ وهو الذي أدى إلى إدماج ميليشيات مسلحة في جيش عراقي، وإلى إفشال استعادة الشرعية في اليمن، وإلى وأد تسوية معقولة في سوريا، وأخيراً إلى شبه انهيار للدولة اللبنانية.
ثم جاء ترمب فقلب سياسة أوباما نسبياً، وفرض عقوبات على إيران، وأرعد وأزبد، ثم تجاهل القضية الفلسطينية، واعترف بالقدس عاصمة لإسرائيل، وتناسى حقوق الفلسطينيين؛ هذا السلوك جعل إيران تتراجع عن تعهداتها النووية، وتزيد من تسليح ميليشياتها، والتناوش مع ترمب، وعندما احتدمت المواجهة بينهما تفاهما على حصرها في نطاق ضيق، كما قال ترمب، بعد مقتل سليماني. وجاء بايدن وتابع خط أوباما فأعطى المليارات لإيران، ومنع الأسلحة عن حلفائه، ومنعهم من الانتصار في اليمن، ورفع الحظر عن الحوثي، فعدّلت السعودية سياستها وتقاربت مع الصين، ثم تفاهمت مع إيران على الحد الأدنى، فتغيرت تركيبة الشرق الأوسط؛ أصبح فيها لاعبون مهمون مثل الصين وروسيا وإيران، وأصبح فيها حلفاء لا يثقون بأميركا، ويمارسون سياسة التوازنات.
بعد غزوة «حماس» لإسرائيل، والمجزرة المروعة للفلسطينيين، عادت أميركا مرغمة للشرق الأوسط ووجدت نفسها عاجزة عن الإقناع، وغير قادرة على الحسم؛ فلا سياسة الردع رادعة، ولا حلفاؤها مقتنعون بجديتها، وازدادت قناعتهم أكثر بعد الضربة العسكرية الأخيرة، التي خدمت أكثر صورة بايدن الانتخابية منها المصالح الأميركية أو مصالح المنطقة. وترى أميركا أن الردع يعني إبقاء الوضع على حاله، وهذا بالضبط ما تريده إيران، بينما الردع الحقيقي ينطوي على عنصر الإجبار بالقوة. لكن بايدن في كل تصريحاته يرغب في إبقاء الوضع على حاله، بتشديده على أنه لا يريد توسيع الصراع، بينما تعمد إيران إلى تغيير الوضع القائم من خلال استنزاف المارد الأميركي، ولو بألف شطبة سكين لينسحب أو يقبل صفقة معها. وطالما بقيت إدارة بايدن على هذا الفهم «للردع»؛ فإن كل مبادراتها للسلام في المنطقة لن يُكتب لها النجاح، ما لم تحزم أمرها بعنوانين: أولاً، الاعتراف بحق الشعب الفلسطيني بدولة ذات سيادة، تعيش بجوار إسرائيل، وثانياً، العمل على تفكيك منطق أوباما الأعوج، بدخولها بمواجهة حقيقية مع إيران عنوانها: لا قبول بمنطق تمدد الميليشيات وتهديد أمن الحلفاء. هذان الأمران بداية لا يمكن الاستغناء عنهما لكي تستعيد أمريكا فاعليتها وترتب المنطقة بتسوية معقولة.
أثبتت منطقة الشرق الأوسط أنها صِمَام أمان للعالم، وأن إهمالها يفجّر العالم؛ لذلك على الجميع أن يساهموا في استقرارها، والولايات المتحدة كونها المستفيد الأكبر يقع على عاتقها العبء الأكبر؛ وهذا يتطلب منها حزماً، ودعماً، يعيد لمعسكر الاعتدال الثقة بها، ويعزز فرصة الحل العادل للقضية الفلسطينية، ويوقف تغوّل الميليشيات على حساب الدولة. ولعلَّ تصريح مستشار الأمن القومي جاك سوليفان مؤخراً بأنَّ أميركا قد تضرب أهدافاً داخل إيران قد يكون مؤشراً جدياً على تغير معادلة مفهوم الردع من إبقاء الوضع على حاله إلى إجبار الخصم. هذا التحول إن التزمت به أميركا سيُغير وجه المنطقة، وإن لم تلتزم فلن يختلف مصيرها عن مصير باقي الإمبراطوريات العظمى التي اندثرت في رمال هذه المنطقة المتحركة.