بعض الأحيان، تنبثق الثورات الاجتماعية من أفكار عادية. على سبيل المثال، خلال القرنين الـ17 والـ18، أسهم مفكرون مثل ويليام بيتي وديفيد هيوم وآدم سميث في نشر وإضفاء الشعبية على مفهوم يسمى «تقسيم العمل»، يقوم على فكرة بسيطة مفادها بأنه إذا تخصَّصتُ أنا في فعل ما أجيده، وتخصَّصتَ أنت فيما تجيده، وتبادلنا ما صنعه كل منّا، سنصبح بذلك أكثر إنتاجية وأفضل حالاً مما لو حاول كل منّا الاكتفاء ذاتياً.
قد يبدو الأمر غير ذي أهمية، لكن تقسيم العمل كان جزءاً من كوكبة من الأفكار التي حررت حضارتنا من القبضة الوحشية للتفكير الصفري. وعلى امتداد آلاف السنين قبل ذلك، ظلّ النمو الاقتصادي راكداً في الأساس. وافترض كثير من الناس ببساطة أن المعروض من الثروة محدود. وإذا كنت سأحصل على مزيد منه، فسيكون ذلك نتيجة لإخضاعك وسرقة ما لديك. وفي إطار عقلية «المحصلة الصفرية»، يقوم المنطق الأساسي للحياة على فكرة «كلب يأكل كلباً»، أو إما أن تكون منتصراً أو مهزوماً، وأن النصر دوماً حليف العناصر المفترسة.
من ناحية أخرى، شجّع تقسيم العمل، والمبادئ الأخرى التي تعتمد عليها الرأسمالية الحديثة، عقلية «المحصلة الإيجابية». ووفقاً لهذه الطريقة في التفكير، فإن خير الآخرين يضاعف مصلحتي.
داخل هذا النمط من المجتمعات، لا تدور الحياة حول الغزو والسيطرة، وإنما حول المنافسة المنظمة والتبادل الطوعي. ولا يتعلق الأمر بالعداء، وإنما بالاعتماد المتبادل. وحسبما كتب والتر ليبمان في أواخر ثلاثينات القرن الماضي، فإنه داخل هذا النوع من الأسواق: «جرى فتح آفاق في نهايتها تمكّن الرجال من رؤية إمكانية بناء مجتمع صالح على هذه الأرض».
بعبارة أخرى، ساعد مفهوم اقتصادي جاف مثل «تقسيم العمل» على تدشين ثورة أخلاقية. الواقع أن المجتمع القائم على عقلية «المحصلة الإيجابية»، يتميز بكونه أكثر تعددية وتسامحاً، لأنه يشجع جميع أعضائه على الريادة في تخصصاتهم. داخل هذا المجتمع، يُكافأ الناس على مهاراتهم ومخيلتهم، وليس على قدرتهم على تخويف الآخرين، فالتنافس على الميزة النسبية يطلق العنان للإبداع البشري والدافع والابتكار والطموح الذي لا يوصف.
على الطرف المقابل، أفرزت الأخطاء والفضائح التي وقعت أوائل القرن الـ21 (العراق، والأزمة المالية، وما إلى ذلك) أزمة شرعية لهذا النوع من الرأسمالية الديمقراطية الليبرالية. وفقد الناس الثقة في أن النخب تعرف جيداً ما تفعله، أو أنها تخدم أي فئة أخرى غير نفسها. ونتج عن خيبة الأمل هذه ارتفاع في تيارات الشعبوية على الصعيد العالمي.
وتكشف الأرقام أنه عام 2002، كان يعيش 120 مليون شخص فقط ببلدان يحكمها ما سمته صحيفة «الغارديان» «القادة الشعبويين» «إلى حد ما على الأقل». إلا أنه بحلول عام 2019، ارتفع هذا الرقم إلى أكثر من مليارَي شخص.
وعليه، يتضح أن الشعبوية تزدهر في ظل عقلية «المحصلة الصفرية». وتدور الرسالة المركزية التي يرددها الشعبويون حول فكرة: إنهم يريدون تدميرنا. كما يعمد الزعماء الشعبويون دائماً إلى تأجيج التعصب العرقي لحشد أنصارهم.
ويجسد دونالد ترمب هذه العقلية، فقد نشأ في عالم محصلته صفر، يتمثل في عالم العقارات في نيويورك، حيث مساحة الأرض ثابتة. عام 2017، قرأ ديلان ماثيوز، الكاتب في موقع «فوكس»، وزملاؤه، جميع كتب ترمب حول الأعمال والسياسة، وخلصوا إلى أن أسلوب «التفكير الصفري» يشكل جوهر عقليته.
على سبيل المثال، يقول ترمب في كتاب شارك في تأليفه بعنوان «كن طموحاً وقوياً»: «تسمع كثيراً من الناس يقولون إن التوصل إلى اتفاق عظيم يحدث عندما يفوز الطرفان. هذه ليست سوى حماقة. الصفقة الكبيرة هي التي تفوز أنت فيها، وليس الجانب الآخر. أنت تسحق الخصم وتخرج بشيء أفضل لنفسك».
وتعدّ حركة «اجعل أميركا عظيمة مرة أخرى» بمثابة تعبير سياسي عن عقلية «المحصلة الصفرية»، فالأمر الجيد للمهاجرين سيئ لأميركيي المولد، والجيد للسود سيئ للبيض، والاتفاقات التجارية ليست سوى استغلال، وفي الوقت ذاته فإن حلفاءنا داخل حلف «الناتو» يضروننا. وكل يوم لترمب، ليس سوى لعبة هيمنة نخوضها «نحن» ضد «الآخر».
والملاحظ أن تفكير «المحصلة الصفرية» يزداد داخل تيار اليسار أيضاً، خصوصاً أن جيلاً من طلاب الجامعات جرت تنشئته على عقيدة مفادها بأن الحياة عبارة عن مسابقة بين المجموعات المختلفة - الظالمون مقابل المضطهدين، والمستعمِرون مقابل المستعمَرين.
الملاحظ أن هذا التفكير آخذ في الارتفاع بجميع أنحاء العالم، مع محاولة الطغاة الاستيلاء على الأراضي لزيادة الثروة والمجد. وتبعاً لبرنامج «أوبسالا» لبيانات الصراع، كان العنف على مستوى الدول، والعناصر غير التابعة لدول، أعلى خلال عام 2022 عمّا كان عليه قبل عقد من الزمن.
مثلاً، نجد أن فلاديمير بوتين لا يسعى نحو استعادة العظمة الروسية من خلال قيادة أمة تبتكر علاجاً لمرض السرطان أو تنتج إبداعات تكنولوجية، وإنما يسعى إلى المجد من خلال غزو أوكرانيا، انطلاقاً من مبدأ: «أنت تخسر، وأنا أفوز». وبالمثل، لم يعد شي جينبينغ يتحدث عن الولايات المتحدة والصين بوصفهما صديقتين متنفستين؛ وإنما يصف عالماً نخوض فيه حرباً صفرية من أجل التفوق، بحيث إذا ما فاز هو، نخسر نحن. وكما أشار زميلي توماس فريدمان في وقت قريب، كان بإمكان جماعة «حماس» أن تحوّل قطاع غزة إلى دبي - أرض الرأسمالية والنمو والفرص، لكنها ترفض كامل روح الرأسمالية الحديثة.
في الواقع، جميعنا لدينا شكاوى بشأن عصر العولمة السريعة، لكن ما أعقب ذلك كان أسوأ بكثير، حيث حلّت المواجهة السياسية والعسكرية محل المنافسة الاقتصادية العالمية. واليوم، تتمتع روسيا بزخم في أوكرانيا، بينما يزداد تأثير الصين في المياه المحيطة بتايوان. وبالتوازي مع ذلك، يتقدم ترمب في عديد من استطلاعات الرأي.
ولذلك، يستقبل كثير منا عام 2024 بشعور من الشؤم، فنحن بحاجة إلى أن يكون جو بايدن على المستوى الذي يتطلبه هذا العام. كما أننا بحاجة إلى زعيم يثبت لنا أنه يدرك نطاق الأزمة العالمية، ويملك رؤية لكيفية العودة إلى عالم يقوم على مبدأ «المحصلة الإيجابية»، ويتميز بالنمو والإبداع والسلام.
شخصياً، أود من أفراد الفريق المعاون لبايدن إلقاء نظرة على حملة رونالد ريغان عام 1980. في ذلك الوقت، اعتقد كثير من الناس بأن ريغان كان طاعناً في السن. ومع ذلك، كانت لديه رؤية قوية بخصوص التهديدات العالمية، ومستقبل أميركا. بطبيعة الحال، ليس من المطلوب من فريق بايدن أن يصبح «ريغانياً» بالكامل، لكن يمكنه الترويج لنسخة ليبرالية لاثنين من موضوعاته المميزة (القانون والنظام... وروح المبادرة).
القانون والنظام: نعيش اليوم في خضم صراع متعدد الجبهات يضع قوى الحضارة في مواجهة قوى. في العالم المتحضر، يضع الناس قواعد ومعايير لجعل المنافسة عادلة، سواء كانت منافسة اقتصادية أو فكرية أو سياسية، بينما يسعى البرابرة إلى هدم تلك القواعد حتى تسود البلطجة. ويحتاج بايدن إلى تقديم نفسه مرشحاً معبراً عن فكرة القانون والنظام - في أوكرانيا، وضد «حماس»، وفي صناديق الاقتراع، وفي شوارع أميركا، وكذلك على الحدود الجنوبية. وعليه، أن يدافع عن سيادة القانون ضد حالة الفوضى المتفاقمة.
يتعيَّن على بايدن رسم صورة لمستقبل أميركا ليس بالإحصاءات، وإنما من خلال طرح رؤية لأسلوب الحياة، تتضمن تشجيع الأفراد على بدء عمل تجاري؛ وبناء مدارس أفضل؛ والعمل مع الناس العاملين بالشركات، ومعاونة الأفراد على الخروج من الفقر وتمكينهم من شراء منزل.
ولا يزال هذا الحلم الليبرالي متأصلاً في جذور الأمة الأميركية، رغم ما عايشه من سنوات كثيرة من المرارة وخيبة الأمل والتشاؤم. وربما يتمكن بايدن من لمس شيء عميق داخل كل مواطن أميركي، وإحياء روح التفاؤل التي لطالما كانت سمتنا الوطنية المميزة.
* خدمة «نيويورك تايمز»