د. محمد علي السقاف
كاتب يمنى خريج جامعتَي «إكس إن بروفانس» و«باريس» في القانون والعلوم السياسية والعلاقات الدولية حاصل على دكتوراه الدولة في القانون عن منظمة «الأوابك» العربية من السوربون ماجستير في القانون العام ماجستير في العلوم السياسية من جامعتي باريس 1-2. له دراسات عدة في الدوريات الأجنبية والعربية والعلاقات العربية - الأوروبية، ومقالات نشرت في صحف عربية وأجنبية مثل «اللوموند» الفرنسية. شارك بأوراق عمل في مراكز أبحاث أميركية وأوروبية عدة حول اليمن والقضايا العربية. كاتب مقال في صحيفة «الشرق الأوسط».
TT

ازدواجية مواقف الغرب في أوكرانيا وفلسطين

استمع إلى المقالة

كشف عام 2023 حجم المسافة الواسعة في اختلاف مواقف الغرب وخطابه المزدوج تجاه النزاع الروسي الأوكراني ومذابح إسرائيل في فلسطين.

في 24 فبراير (شباط) 2022 اجتاحت القوات الروسية أراضي أوكرانيا، وفي 7 أكتوبر (تشرين الأول) 2023 قامت المقاومة الفلسطينية بعمليات عسكرية في أجزاء من الأراضي الفلسطينية المحتلة. الحالة الأولى كانت في قلب القارة الأوروبية، والحالة الثانية كانت في قلب العالم العربي. هل الاختلاف في المواقع الجغرافية يستدعي ازدواجية في مواقف الغرب؟ وهل في الحالتين طُبّقت القيم والمبادئ نفسها التي يتبناها الغرب أم خُصصت تلك المبادئ والمطالبة باحترامها في الحالة الأوكرانية وجرى تناسيها إن لم يكن دفنها في الحالة الفلسطينية؟ أليس هذا الاختلاف في حالتي الصراع يؤكد ما قاله أحد الكتّاب الغربيين، وهو محق في ذلك، أن دول العالم الثالث تنظر إلى الاتحاد الأوروبي على أنه مجرد نادٍ لِتَجَمُّعِ إمبراطورياتٍ استعماريةٍ؟

هل قيمة حياة الآخرين من مهاجرين أو ضحايا صراعات مسلحة لا تساوي قيمة حياة الفرد الأوروبي؟

أليس مثيراً ويدعو للدهشة أنَّ حكومة أوكرانيا ورئيسها لم يعبرا عن أدنى تضامن مع الشعب الفلسطيني بوصفه رد جميل لتضامن بعض العرب معهم عند اجتياح روسيا لهم، وتضامن البعض منهم بتقديم مساعدات مالية لهم، في حين أمام الدراما التي تحدث في غزة والضفة الغربية لم ترتفع أصوات تندد بالهمجية الإسرائيلية في قتل الأطفال والنساء بالآلاف على أساس أن من حق إسرائيل، كما تدعي أغلب دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة، الدفاع عن نفسها! ولحسن الطالع أن مواقف الشعوب الغربية كانت أكثر تأثراً بمشاهد المجازر التي ترتكبها إسرائيل من حكوماتها، وقد أدت المظاهرات الكبرى التي عمت عواصم أغلب الدول الغربية إلى حدوث تراجع نسبي في التأييد المطلق لحكومات الغرب لإسرائيل، وإن كان ذلك قد اختلف بخصوص موقف إدارة بايدن بعيداً عن عدد من الدول الغربية بحكم شخصية الرئيس بايدن نفسه ووزير خارجيته؛ حيث لم يتوانَ الأول من القول إنه ليس من الضروري أن تكون يهودياً لتصبح صهيونياً، وظهر الثاني في رحلته الأولى بعد السابع من أكتوبر إلى إسرائيل، وقال علناً إنه قَدِم إليها ليس بصفته وزير خارجية للولايات المتحدة وإنما بصفة يهودياً؛ حيث أتى إليها متضامناً معها.

أليس مثيراً تجريم كثير من دول الاتحاد الأوروبي معاداة الصهيونية مثل تجريمها معاداة السامية؟ في حين لم تقم أي دولة غربية بتجريم الإسلاموفوبيا؟ هل يمكن تصور أن تصل الأمور في الغرب وفي الاتحاد الأوروبي وعلى وجه الخصوص ألمانيا إلى هذا الحد؟ حيث أصدرت ألمانيا مؤخراً قراراً يلغي دعمها المادي لبعض منظمات المجتمع المدني العربية لحقوق الإنسان التي كانت تساعدها منذ عقود. لقد ألغت ألمانيا مساعداتها لها لمجرد أنها أدانت في بيانات المذابح والإبادة الجماعية والجرائم ضد الإنسانية التي ترتكبها إسرائيل ضد النساء والأطفال الفلسطينيين. والأدهى من ذلك الموقف الألماني ما نشرته «إل بي بي سي» حول قيام ولاية سكسونيا بإدراج شرط جديد للحصول على الجنسية الألمانية بأن على المتقدمين للجنسية إعلان دعمهم حق إسرائيل في الوجود، وينص المرسوم الذي صدر عن وزارة الداخلية على أن «حق الدولة الإسرائيلية في الوجود هو سبب وجود الدولة الألمانية»، وعليه يجب على المتقدمين للجنسية أن يعترفوا بذلك بشكل كتابي!

ترى الدولة الألمانية أنَّ لديها «مسؤولية خاصة» تجاه إسرائيل بسبب «الهولوكوست»؛ فالتزامها للدولة الإسرائيلية ليس مجرد هدف سياسي، بل هو جزء أساسي من وجود ألمانيا في الوقت الحالي. مثل هذا التعصب فندته الأكاديمية كاترينا غالور المختصة بالدراسات اليهودية في جامعة براون الأميركية والتي تحمل الجنسيتين الألمانية والإسرائيلية بقولها إن «هناك رابطاً تاريخياً واضحاً في ألمانيا بين (الهولوكوست) وضرورة إنشاء إسرائيل، إلا أن الرابط الآخر الذي تتجاهله الحكومة الألمانية هو العلاقة بين (الهولوكوست) والنكبة الفلسطينية، والتي أدت إلى إحدى أكبر أزمات اللاجئين في العالم»، وكما يقول المثل وشهد شاهد من أهلها؛ حيث أشار الكاتب هنا في هذه الصحيفة في مقال سابق إلى العلاقة الجدلية بين «الهولوكوست» وقيام دولة إسرائيل.

فمن ناحية القانون الدولي، روسيا اجتاحت أوكرانيا واحتلت أجزاء من أراضيها. وإسرائيل عملت الشيء نفسه واحتلت الأراضي الفلسطينية، وباعتراف صريح عبر قرارات دولية عدة رأت المنظمة الدولية أن ما قامت به إسرائيل هو احتلال لأراضٍ فلسطينية خلافاً للقانون الدولي. فلماذا كما أشار إليه أحد الكتَّاب البارزين لم تلق الحالتان الموقف نفسه من قبل الغرب؟ بأن تقف الولايات المتحدة وأوروبا بجانب الدول التي اعتُدي عليها بدلاً من الوقوف إلى جانب البلدان المعتدية. ففي الأيام الأولى من حرب أوكرانيا فتحت أوروبا حدودها لاستقبال ملايين اللاجئين الأوكرانيين، في حين لم يستقبلوا بنفس الحفاوة والكرم لاجئي العراق وأفغانستان. هل يعود سبب الاختلاف كما كتب أحد الصحافيين البريطانيين إلى أن الأوكرانيين يشبهوننا فهم يشاهدون مثلنا «نيتفليكس»، ولديهم حسابات في «إنستغرام»، ويقرأون صحفاً حرة مثلنا؟ واشنطن وبروكسل عند اجتياح الروس لأوكرانيا فرضتا عقوبات صارمة على موسكو (حظر نفطي، تقييد التجارة والمعاملات المصرفية...) لا شيء مثل هذه العقوبات وُجِّهَ ضد إسرائيل. والمنظمات المطالبة بمقاطعة إسرائيل حُوربت واتُّهمت بأنها تعادي السامية، وحُظر وجودها في الولايات المتحدة وكندا وألمانيا، وفي فرنسا جرت مقاضاتها أمام المحاكم! والغرب يزود أوكرانيا بالأسلحة في حين تزود إسرائيل التي تحتل الأراضي الفلسطينية بالأسلحة، وتحذر وتهدد بالانتقام ضد من يحاول مساندة الفلسطينيين عسكرياً.