د. ياسر عبد العزيز
TT

2024... والحاجة إلى نظام إعلامي جديد

استمع إلى المقالة

يسود اعتقاد بين كثير من علماء السياسة وممارسيها مفاده أن «النظام السياسي الدولي» الراهن بات في حاجة ماسة إلى تغيير، وبعض هؤلاء يكاد يجزم بأن هذا التغيير بدأ فعلاً.

ثمة كثير من التعريفات التي سعت إلى سبر غور هذا المصطلح (النظام السياسي الدولي)، وتبسيطه للناس، بالنظر إلى أن هذا النظام لا يمتلك تأطيراً مُلزماً أو تعريفاً قانونياً، وفي كل تلك التعريفات تقريباً أمكن ملاحظة وجود كلمة «القوة»؛ أي مستوى القوة الشاملة التي تمتلكها الدول المنخرطة في النظام، وبالتالي موقعها فيه، وحجم المصالح التي يمكن أن تحققها من خلاله.

ومنذ عام 1945، اجتهدت الولايات المتحدة الأميركية في إرساء دعائم «النظام الدولي» الراهن، وعبر مساهمتها وقيادتها النشطة نشأت المؤسسات المالية والسياسية والقانونية التي ترسي المعالم المؤسسية لهذا النظام، وهو النظام الذي بات معروفاً لاحقاً أنه يكافئ المنتصرين في الحرب العالمية الثانية، ويكرّس مكانتهم على حساب آخرين.

لكن شرعية أي نظام مرهونة عادة بإيمان أعضائه بأنه يحقق الحد الأدنى من مصالحهم، وأن القوى المهيمنة فيه لا تستغله للجور عليهم وسلب حقوقهم، بينما قدرة أي نظام على الاستدامة تحتاج إلى درجة من رضا المنخرطين فيه، أو عدم قدرتهم على توفير بدائل مناسبة.

ومنذ السبعينات من القرن الماضي، نشأ تعبير يحاكي مصطلح «النظام السياسي الدولي»، وهو تعبير «النظام الإعلامي العالمي»، ومن أجله، وفي محاولات لشرحه ومناقشة وجوده وأثره، انعقد كثير من المؤتمرات الدولية، وصدرت البحوث والكتب، في رقعة امتدت من الصين شرقاً إلى البرازيل غرباً.

وفي مجمل الاستخلاصات التي جرى التوافق بشأنها - وبعضها تم الوصول إليه في فعاليات أشرفت على تنظيمها منظمات أممية - بخصوص هذا «النظام الإعلامي العالمي»، ظهر توافق على أن هذا النظام غير عادل، وغير متوازن، وأنه يكرس قوة «المراكز» (الغربية) على حساب «الأطراف» (العالم الثالث والدول غير الغربية)، وأنه يتضافر مع «النظام السياسي الدولي» في تكريس الهيمنة الغربية، وسلب حقوق الدول الأضعف.

ومع مطلع الألفية، بدا أن الهيمنة الغربية (ومعظمها أميركي) على مفاصل هذا النظام تتسع وتزداد؛ وقد حدث هذا مع صعود شركات التكنولوجيا العملاقة، وبروز أدوار وسائط «التواصل الاجتماعي» المملوكة لها، واتساع دور منصات الترفيه، ثم ظهور أدوات الذكاء الاصطناعي، وبدء إدماجها في نماذج الأعمال الإعلامية باطراد.

وبموازاة هذا الاختراق التكنولوجي الواسع والمؤثر، لم تتراجع الهيمنة الغربية على عالم الوسائط «التقليدية»، بل تعززت في مفاصل عديدة، خصوصاً بفضل الدور الذي تلعبه وكالات الأنباء العالمية الكبرى، وسيطرتها على نحو 80 في المائة من حجم التدفق الإخباري العالمي، وبقاء الشاشات والعناوين الصحافية الغربية الرئيسية في مقدمة عالم تلك الوسائط.

وكما حدث في «النظام السياسي الدولي»، الذي اهتزت شرعيته، وتزعزعت الثقة فيه، وبدأ عدد من أطرافه في البحث عن بديل، جرى شيء مماثل في «النظام الإعلامي العالمي»، الذي ظلت الانتقادات تطوله منذ خمسة عقود، قبل أن تتحول صيحات استهجان وتنديد صاخبة مع حربي أوكرانيا وغزة.

في هاتين الحربين اهتزت شرعية «النظام الإعلامي العالمي» بدرجة كبيرة، ولاحظ فاعلون عالميون أن هذا النظام إنما صُمم واستدام لصيانة مصالح الدول الغربية الكبرى، وعلى رأسها الولايات المتحدة، على حساب بقية دول العالم، وأن هذا الأمر حدث في المجالين الإعلاميين «التقليدي» و«الجديد».

وقد دفع هذا أطرافاً فاعلة أقل قدرة إلى تطوير وسائط «تقليدية» فعالة بهدف منافسة الوسائط الغربية النافذة، سعياً لردم جزء من الفجوة الإعلامية الكبيرة. وفي مواجهة التحكم الغربي في الفضاء الاتصالي عبر «الإنترنت» ونطاقاته، قررت بعض الدول أن تُكرس «الإنترنت السيادي»، أو أن تطور «وسائط تواصل وطنية» أو أن تبلغ «عزلة رقمية».

الطريقة التي تفاعل بها «النظام الإعلامي العالمي» مع حربي أوكرانيا وغزة أثبتت أن هذا النظام مرهون لأميركا وحلفائها في الغرب، وأنه مُسخر لتحقيق أهداف هذا التحالف، وأن نزعة الاستقلالية المهنية التي ينطوي عليها أقل تأثيراً من الضغوط السياسية التي تُمارس عليه، وبسبب ذلك، فإن الحديث عن بدء إحداث التغيير في هذا النظام بات مُلحاً، وآليات هذا التغيير يمكن أن تبدأ في التفاعل في عام 2024.

ولذلك، فإنه من المرجح أن تشهد 2024 محاولات عديدة لإصلاح «النظام الإعلامي العالمي»، عبر قيام قوى فاعلة من «الجنوب» و«الشرق» بإنشاء مزيد من الأدوات الإعلامية الفاعلة أو تعزيزها، وتمتين أواصر سيادتها الرقمية، وتصعيد الضغوط على الممارسات الجائرة ومقاومتها، ومحاولة إحداث قدر أكبر من التوازن.

فبينما تبدو الحاجة ملحة للبدء في إحداث تغيير بـ«النظام السياسي الدولي» في 2024، فإنها لا تقل إلحاحاً فيما يتعلق بـ«النظام الإعلامي العالمي».