مع اقتراب نهاية هذا العام، وبعد صراع اقترب من عامين مع معدلات تضخم غير مسبوقة في ارتفاعها منذ أربعين عاماً، هناك بوادر يحتفي بها البعض، استحقاقاً أو استعجالاً، بنصر مؤزر لسياسات البنك الفيدرالي التي انتهجها بارتفاعات متوالية لأسعار الفائدة، مع مؤشرات بتخفيضات لها في عام 2024. ويأتي الاهتمام بما يحدث في سياسات الفائدة في الولايات المتحدة لما تحظى به عملتها «الصعبة» من مراكز مهيمنة حتى الآن كعملة احتياطي دولي بنسبة 60 في المائة، فضلاً عن كونها العملة المفضلة في التمويل الدولي والديون والأسواق المالية وتسوية المعاملات التجارية. هذا رغم أن الولايات المتحدة لا تتجاوز 25 في المائة من الاقتصاد العالمي، كما أنها في الصادرات الدولية تلي الصين التي احتلت المرتبة الأولى منذ عام 2009.
نذكر أنه مع إعلان نيكسون عن عدم تحويل الدولار إلى ذهب في عام 1971 انهار نظام «بريتون وودز» لعام 1944، وهو ما دشن ضمناً الدولار كعملة احتياطي، ارتبطت به العملات بأسعار صرف ثابتة وكان يتم تحويله تلقائياً لذهب بمقدار 35 دولاراً لكل أونصة. ومنذئذ اشتعل الجدل حول نظم سعر الصرف ومدى عدالتها والبحث عن بديل، وعملياً عكفت البنوك المركزية الرئيسية على رصد حركة الدولار وقيمته ومدى استقراره وصموده أمام موجات التضخم في بلاده وديونها المتراكمة لتأثيره في سياساتها النقدية وتنافسيتها.
وترتبط اليوم بالدولار، وبدرجات متفاوتة، عملات دول متقدمة ونامية، فهي إن اتبعت أسعار صرف ثابتة كان ذلك بالنسبة للدولار، وإن هي تبنت أسعار صرف مرنة كان ذلك بالنسبة له أيضاً؛ ربما أُضيفت عملات أخرى في سلة عملات ولكنه يظل أهمها نسبياً في الأوزان. حتى إن لم يكن الدولار طرفاً مباشراً في المعاملات أو تسويتها مع ازدياد استخدام عملات أخرى محلية ودولية عبر الحدود إلا أنه ما زال يستند إليه كعملة معبرية تقاس بالنسبة لها قيم أسعار صرف العملات الأخرى.
وما يبرر هذا الدور للدولار كعملة صعبة، وما يصاحبه من امتيازات سخية وفياضة على الاقتصاد الأميركي، ألخصه في ثلاث مقتطفات فصلتها في المقالات السابقة في هذه السلسلة: الأولى ما أشار إليه رئيس البرازيل لولا دا سيلفا من «ظاهرة الاعتياد» والخشية من التغيير، الثانية ما ورد على لسان وزيرة الخزانة الأمريكية جانيت يلين من أن «هناك أسباباً جيدة لاستخدام الدولار بتوسع في التجارة، فلدينا أسواق مالية عميقة وذات سيولة ومنفتحة وتحكم بالقانون وأدوات مالية طويلة الأجل»، والثالثة ما ذكره الاقتصادي صاحب الكتاب العمدة عن مستقبل النقود إيسوار براساد عن أهمية الأداء النسبي للعملة الأميركية في استمرار دورها الدولي مقارنة بالبدائل من عملات تقليدية أو ناشئة أو مبتكرة؛ هذا على الرغم مما وقع فيه الاقتصاد الأمريكي من محظورات تمس مصداقية العملة من ارتفاعات غير مسبوقة للتضخم وزيادة مخاطر الاستدانة. هذا فضلاً عن استخدام الدولار أداةً من أدوات الصراع الدولي كما رأينا في حالات تعامل الولايات المتحدة مع روسيا وأفغانستان وإيران فيما أطلق عليه «الدولار المسلح».
للتعرف على مستقبل الدولار عملةً دوليةً عاد البعض للتاريخ القديم للدراخما الإغريقية في القرن الخامس قبل الميلاد أو بعدها للديناري الروماني والسوليدوس البيزنطي أو دينار العالم الإسلامي في العصور الوسطى، متزامنة معه العملات الذهبية مثل الدوكات الفينيسي والفلورين الفلورنسي. لكن ظهور عملة الاحتياطي الصعبة بتوافق على قبولها كان بصعود الدولار الإسباني الفضي بين القرنين السادس عشر والتاسع عشر مع تنامي دور إسبانيا الاستعماري في الأميركتين. ثم يأتي التاريخ الحديث والمعاصر بتذكرة بالاحتمال المستمر للتغيير، وبحكم أننا في عالم شديد التغير قد لا يستغرق الأمر قروناً كما كان من التحول من الجيلدر الهولندي الذي استفاد من توسع هولندا الإمبريالي وانتصاراتها الحربية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، واستند إلى قاعدة الفضة، وقام بنك أمستردام بمحاولات كتلك التي تقوم بها السلطات النقدية المعاصرة للعمل على استقرار قيمة وحداته.
ثم حل الجنيه الإسترليني محل الجيلدر، الذي اعتمد قاعدة الذهب، وتفوق على العملات المنافسة استناداً إلى التوسعات الحربية الاستعمارية لبريطانيا وزيادة صادراتها السلعية، حتى صارت 60 في المائة من التجارة الدولية تتعامل بالجنيه الإسترليني. وجاءت الحربان العالمية الأولى والثانية بخسائرهما الاقتصادية على بريطانيا بديون جسيمة، رغم أنها كانت من الحلفاء المنتصرين سياسياً وعسكرياً. استمر الإسترليني دولياً بحكم الاعتياد وعدم إدراك حقيقة تدهور الأوضاع وما تأخذه الترتيبات الدولية من زمن لقبول القادم الجديد والتخلي عما ألفته رغم ما به من عوار متفاقم. ولكن عندما صيغت اتفاقية «بريتون وودز» في يوليو (تموز) من عام 1944 المنشئة للترتيبات المالية والدولية الجديدة لم تعتمد الإسترليني عملةً لها، رغم أنه كان عملة الاحتياطي الدولي المهيمنة واستمر هكذا بنسبة 55 في المائة حتى جاءت «لحظة السويس» عام 1956.
وتحمل المقتطفات الثلاث المذكورة، للرئيس لولا والوزيرة يلين والاقتصادي براساد، في طياتها وتبعاتها، احتمالات التغيير بتغير المعطيات، على أن تأتي بدائل الدولار مساندة بأداء اقتصادي معتبر وأسواق مالية منفتحة متنوعة الأدوات مدعومة بمصداقية للنظام القانوني والحوكمة، ثم سيعتاد المتعاملون من مؤسسات ومستثمرين وتجار وعموم الناس على البديل العملي. وعلى البدائل أن تستفيد من دروس صعود وانحسار العملات دولية الاستخدام وارتباطها بصعود وهبوط أو سقوط الأمم والإمبراطوريات المصدرة لها. وفي مقال قادم سنناقش أسس إدارة الاحتياطي الدولي من النقد الأجنبي ومدى استمرار اعتماده على الدولار وجدواه؛ وكذلك ما أطلقت عليه فضل استهداف التضخم على استهداف سعر الصرف في السياسة النقدية. في عالم شديد التغير لا يمكن الاعتماد على عملة دولة أخرى قد تفقد خصائص الثقة والاستقرار كأساس للإدارة الاقتصادية عموماً وكـ«مرسى» للسياسة النقدية خصوصاً.