د. ياسر عبد العزيز
TT

هل تحسنت ديمقراطية الاتصال؟

استمع إلى المقالة

عندما نقارن الأوضاع الإعلامية العالمية الراهنة بما كان قبل بضعة عقود؛ سنعرف بكل تأكيد أن تلك الأوضاع آخذة في التحسن على صعيد تحقيق ديمقراطية الاتصال.

لن يكون إثبات هذا التحسن صعباً على أي حال، رغم رغبة واضحة تظهر في أوساط قطاعات واسعة من الجمهور والنخب، لإدامة الشكوى من التحكم الظاهر في المجال الإعلامي، والكيل بالمعايير المزدوجة؛ خصوصاً في أوقات الأزمات.

فيكفي أن نتذكر -مثلاً- أن غزو العراق جرى استناداً على سردية سياسية تم ترويجها في الإعلام الدولي على نطاق واسع، وأن تلك السردية ظلت عصية على الدحض أو التفنيد لسنوات، وتحت ظلها أمكن غزو هذا البلد وتقويض أركانه، من دون قدرة على طرح سردية مغايرة أو حجج ناقدة.

لم تكن سردية أن العراق يمتلك أسلحة دمار شامل، أو أنه نفَّذ إبادة جماعية بحق بعض مواطنيه باستخدام الأسلحة الكيماوية، أو أنه يرتبط بتنظيم «القاعدة»، بقادرة على الصمود، وتغطية قرار الغزو، لولا أن النظام الاتصالي الدولي القائم آنذاك ساعدها في ذلك، وفي هذا النظام كانت ديمقراطية الاتصال غائبة، ولم تكن هناك أدوات كافية يمكن أن تساعد على إيجادها.

ويمكن القول إنه مع انتهاء العقد الأول من القرن الحالي، كان مفهوم التدفق الإخباري المُختل يتزعزع، ومعه مفهوم الاحتكار المعلوماتي الفعال، وقد حدث ذلك نتيجة لتطورات تكنولوجية وإعلامية، تضافر بعضها مع بعض، لصنع وسط اتصالي أمسى أقل قابلية للتحكم الكامل.

لقد نشأ الدور الواسع والمؤثر لوسائط «التواصل الاجتماعي» في الغرب بطبيعة الحال، كما امتلك الغرب معظم التكنولوجيا المتحكمة في تشغيلها؛ لكن طبيعة تلك الوسائط التي تقوم على فكرة الإتاحة والتفاعل وإنتاج المحتوى بواسطة الجمهور العادي وامتلاك القدرة على البث تحت أصعب الظروف، لم تُتِح للغرب المالك قدرة حاسمة على الهيمنة التامة على عالم تلك الوسائط.

عندما نقارن تلك الأوضاع بما جرى مع بزوغ عهد وكالات الأنباء العالمية، سنعرف أن الأمور تغيرت بعض الشيء لمصلحة الأطراف على حساب المركز في صيغة الاتصال العالمي.

لقد نشأت وكالات الأنباء العالمية الكبرى بوصفها بنية أساسية لصناعة الأخبار والمعلومات العالمية، وتكرست كصناعة ثقيلة في المجال الإعلامي، ولم يمر وقت طويل على إنشائها حتى باتت تسيطر على أكثر من 70 في المائة من مجمل التدفق الإخباري العالمي.

معظم تلك الوكالات كان غربياً في الأساس، وقد نشرت كوادرها ومراسليها في معظم دول العالم، وراحت تنوع منتجاتها وتجددها، لتهيمن على الصور والانطباعات والمواقف الدولية، عبر تأطيرها للأحداث، وتأويلها للأفكار، وتنميطها للشخصيات والقوى الفاعلة المختلفة، وإرساء أجندة الأولويات حول العالم.

ومع بروز عهد التلفزيون، وسطوة نشرات الأخبار المصورة التي تُبث في أوقات الذروة، نشطت آليات صنع الرأي العام العالمي، وكان البث الحي لـ«سي إن إن»، وشقيقاتها، عاملاً جوهرياً في فهم أحداث، مثل حرب الخليج الثانية، ومن ثم تكوين الآراء والمواقف إزاءها، وهو الأمر الذي استمر مصاحباً لحروب وأزمات دولية لاحقة عديدة.

لكن الأوضاع تغيرت. التوازن الإخباري الدولي لم يعُد مُختلاً بالكامل في كل الأوقات. التدفق الإخباري الدولي بات أكثر قبولاً لفكرة السير في اتجاهين. ورغم أنه لا يمكن القول إن التوازن اعتدل، وإن الاختلال تم تصحيحه، فإن الحديث عن فرص سانحة لمعادلة الأثر، وإيصال الصوت من الجنوب إلى الشمال، بات أكثر قابلية للتصديق.

في الحرب الروسية- الأوكرانية، كما في حرب غزة، ظهرت الشكاوى من اعتلال اتصالي دولي، وهي شكاوى مُحقَّة. لقد برزت دلائل وقرائن على محاولة غربية لاحتكار السردية في كلتا الحربين، واتخذت دول غربية رئيسة قرارات مصادرة وحجب وغلق بحق أدوات إعلامية تنقل رسائل «غير مرغوب فيها». وبرزت مؤشرات على استخدام المعايير المزدوجة في إدارة وسائط «التواصل الاجتماعي» الرئيسة لصالح الجانب الأوكراني والجانب الإسرائيلي، كما بات من الصعب نفي الانحياز ضد الروس والفلسطينيين. لكن كل هذه الممارسات التمييزية والتقييدية لم تُفلح في تأميم المجال الاتصالي العالمي بكامله.

وعلى عكس ما كان يجري في زمن وكالة الأنباء، والشاشة التلفزيونية الشهيرة، والصحيفة ذائعة الصيت، فإن الصوت الآخر وصل، والسردية المُغايرة أمكن ترديدها؛ وقد حدث هذا عبر التحايل على القيود التي أرستها بعض وسائل «التواصل الاجتماعي»، أو من خلال وسائل أخرى «صديقة»، وباستخدام طاقة الاتصال العصرية السائدة التي يُمكن تقييد استخدامها؛ لكن بصعوبة وتكاليف أكبر بكثير مما كان يحدث قبل عقود خلت.