في كل زمان ومكان تشترط السياسة وجود القواعد نفسها رغم تنوع الأنظمة والمصائب التاريخية والتطلعات، وكل جوهر يخضع إلى أولوياته الخاصة وغايته، في المقابل نجد أن الفكر يلعب دوره السياسي ويبني فرضياته نحو قوته التي تدفعه إلى الحاضر؛ فالسياسة على اتصال مباشر مع القضايا والمسائل التي يترتب حلها، والفائدة المرجوة في سياسة الوفاق، ويبدو أن استنتاجاً كهذا ملائم في إطار العلاقات الثنائية المتميزة بين المملكة العربية السعودية وروسيا الاتحادية، حيث زار رئيس روسيا الاتحادية فلاديمير بوتين السعودية 1445/5/22هـ الموافق 2023/12/6م.
من هنا، تأتي أهمية الزيارة في ظل أوضاع المنطقة كالحرب في غزة وأيضاً الحرب في أوكرانيا والكثير من المسائل ذات الأهمية، ومنها النفط، حيث أدت الشراكة المتجذرة بين البلدين في قدراتهما الهائلة على إنتاج النفط وزيادة التعاون، توّجت باستقبال حافل من ولي العهد رئيس مجلس الوزراء الأمير محمد بن سلمان بن عبد العزيز، للرئيس بوتين، وعقد جلسة مباحثات رسمية بينهما، استعرضا خلالها العلاقات التاريخية والاستراتيجية بين البلدين الصديقين، وسبل تطويرها في جميع المجالات، وتم تبادل وجهات النظر حول مجمل الأوضاع الإقليمية والدولية الراهنة، وأكد ولي العهد أن التعاون بين السعودية وروسيا يساعد على ضمان الأمن في الشرق الأوسط.
بالنظر إلى هذا الأمر، من المفيد التمعن بالعلاقات التي تربط البلدين بعلاقات جيدة ومستقرة، فخلال العام الحالي، سافر بوتين إلى الكثير من الدول الحليفة غير الموقّعة على نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية؛ إذ إن حكومات تلك الدول ليست مضطرة إلى تسليمه للمحكمة الجنائية الدولية، مع الإشارة إلى خيارات المستقبل الغامض والتي قد لا تستوعب معنى الأحداث التي جرت في الأشهر الماضية ولن تكون العامل الحاسم للموقف.
علاوة على ذلك، فقد زار بوتين نظيره الصيني شي جينبينغ في الصين على هامش منتدى طرق الحرير الجديدة في أكتوبر (تشرين الأول) الماضي وقبل ذلك بأيام، زار قرغيزستان حليفة موسكو، في أول رحلة له إلى الخارج منذ صدور مذكرة التوقيف الدولية في حقه، وأوضح بوتين في أوائل أكتوبر أنه يتجنب الاجتماعات الدولية حتى لا «يسبب مشكلات» للمنظمين.
فهل نستطيع القول إن القوة تصنع الحق وتتجاوز العزلة الدولية؟، كما أن السياسة العالمية سلاح ذو حدين، حتى بات هناك سبب وجيه للتفكير الروسي بتحريك عقارب الساعة للتحرر من العزلة المفروضة من الغرب، عطفاً على قول رئيس مجلس السياسات الخارجية والدفاع فيودور لوكيانوف الذي يعمل مستشاراً للكرملين بأن «زيارة بوتين لاثنتين من القوى الخليجية الرئيسية علامة واضحة على أن روسيا تخرج من عزلتها الدولية»، و«هذا يعزز هدف روسيا المتمثل في تأكيد نفوذها بالشرق الأوسط، ويظهر أن الإمارات والسعودية، وكلتاهما حليف تقليدي للولايات المتحدة، حريصتان على تحقيق التوازن في سياستيهما الخارجية».
وهناك استراتيجية منحت هذا الاتفاق تعزيز التعاون في الكثير من المجالات ذات الأهمية البالغة للبلدين، ودعم جهود السعودية في مجال التغير المناخي من خلال تطبيق نهج الاقتصاد الدائري للكربون الذي أطلقته السعودية وأقرّه قادة دول مجموعة العشرين، وأكد الجانبان أهمية الالتزام بمبادئ الاتفاقية الإطارية للتغير المناخي، واتفاقية باريس، وضرورة تطوير الاتفاقيات المناخية وتنفيذها بالتركيز على الانبعاثات دون المصادر.
وندرك أخيراً أن الرؤية الحقيقية للسياسة تضبط مسيرة الظروف وتحقق غايتها الأولية، وبالتالي الواقع المادي الملموس يفرض نفسه من دون أن يستأذن أحداً، وفي تحليل شامل للباحث في العلاقات الروسية الأطلسية باسل الحاج جاسم، أن «الرؤية السعودية اليوم تقتضي تنويع خياراتها الدولية، من أجل تحقيق التوازن الإقليمي؛ فالدور الروسي تجاه أزمات المنطقة يعدّ مهماً بالنظر إلى تأثير روسيا في بعض أطراف النزاع، فالزمن تغير، واليوم أمام الرياض وموسكو آفاق واسعة للتعاون ومنافع كثيرة مشتركة».
وعلى رأس هذا كله، تأخذ هذه الزيارة أهمية خاصة من حيث العلاقة مع السعودية خاصة؛ لأنها تشكل ضمانة لاستقرار منظمة «أوبك بلس» وأسواق النفط العالمية وتقدير الرئيس الروسي للجهود الإنسانية والسياسية التي يقوم بها الأمير محمد بن سلمان، ومن ذلك الإفراج عن عدد من الأسرى من جنسيات مختلفة في أزمة أوكرانيا، والجهود المستمرة للسلام.