يبدو أننا كنا واهمين، كعادتنا. كنا نتصور أن نظريات الفلاسفة العظام عبر التاريخ منذ سقراط الذي تجرع السم من أجل الحقيقة، وأفلاطون بجمهوريته الفاضلة، وورثتهما من الفلاسفة، وأن قصائد الشعراء منذ هوميروس، إلى ورثته من الشعراء «الملعونين»، لم تمض عبثاً، وأنها لا بد أن تترك أثرها بعد قرون، راكمت فيها أطناناً من دعاوى الحرية والحق والعدالة، التي مات دونها آلاف من الثوار والمصلحين، وأنها ستسم التاريخ في نهاية المطاف. صحيح أننا لا نرى أثرها فوق السطح، خاصة في أزمنة التفاهة والرعونة والحماقة. لكنه هناك يحفر في العمق، وسيجيء الزمن الذي سيشكل فيه وعياً إنسانياً متقدماً، قد يتحول إلى قيمة سائدة مع تدرج الإنسان في صعود ما كنا نسميه «السلم الحضاري».
كنا واهمين! وها إننا نكتشف فجأة أن هذا الإنسان لم يخرج بعد من الغابة. والحقيقة، كما يبدو، أنه لم يخرج منها في أي وقت من الأوقات، بل كان يحجبها بالديكورات العصرية المبهرجة، فلم نرها، أو لم نشأ أن نراها، حفاظاً على أوهامنا الجميلة. لكن الغابة عارية أمامنا الآن بأحراشها، وبركها الآسنة، وثعالبها وذئابها المتعايش بعضها مع بعض. وإذا لم يكن الأمر كذلك، وأننا نبالغ قليلا أو كثيراً، فكيف نفسر ما يجري أمام أعيننا، وبأي نظرية نستعين؟
أي نظرية ممكن أن تفسر لنا كيف أجمع العالم - وحين نقول العالم نعني الغرب، وهل يوجد غيره، ببنيته السياسية والإعلامية والثقافية العامة - كيف أجمع للمرة الأولى في تاريخه على تمجيد القتل؟ أهو الغرب نفسه الذي شعت من أرجائه أنوار التنوير منذ القرن السادس عشر، وقدم للبشرية فلاسفة وكتاباً لا يمكن تصور المعرفة الإنسانية من دونهم، ولا الحضارة المعاصرة من دون إسهاماتهم الكبرى؟! أين ذهب هؤلاء ليحل محل نظرياتهم ورواياتهم وقصائدهم المبشرة بالحرية والحق والجمال هذا الكم القاتل من السطحية والتفاهة، والتهافت الرخيص؟! وكيف حلت عقول عليلة، يسابق بعضها بعضاً على تمجيد القتل على رؤوس الأشهاد أو بالصمت القاتل، محل عقول روسو وكانت وديكارت وغوته ووالت وتمان وريلكه؟!
في حربين كونيتين، انقسم العالم إلى نصفين، نصف يحارب نصفاً، وتوهمنا أن معارك التاريخ المدمرة تلك كانت من أجل عيون هذا التاريخ حتى يبقى أبيض، نقياً، خالياً من أقذر ما عرفته البشرية من عبودية وعنصرية، وحروب وتدمير، ومقت واحتقار واستهتار بالإنسان.
كيف صار هذا العالم فجأة واحداً موحداً في تمجيد كل ما حارب ضده في الماضي؟ أي أقنعة كان يرتدي، فلم نرَ وجهه القبيح؟
هل استيقظت غريزته الأولى، التي كانت كامنة في مكان ما، تنتظر فرصة للإعلان عن نفسها، وقد فعلت الآن ذلك، بكل ما تملك من أسنان وأنياب ومخالب حضارية هذه المرة.
كنا عمياناً، وها نحن نرى الآن، لكن أية مغفرة ترجى! كما صرخ تي. أس. إليوت بعد الحرب العالمية الأولى. ثم ماذا سنفعل بتلك المعرفة التي أورثنا إياها صانعو الجمال، والمبشرون بالحق والحرية وسمو الإنسان الذي هو «أثمن رأس مال»؟! كيف سنخرج من رؤوسنا ما تعلمناه من قيم مات من أجل تحويلها إلى حقائق ملموسة آلاف مؤلفة من البشر منذ قرون، في كافة أرجاء المعمورة؟! هل نحطم رؤوسنا على جدران غرفنا، ثم نخرج إلى الشوارع صارخين: مات الإنسان، مع الاعتذار لنيتشه على تحريف صرخته قليلاً! كان الرجل أشجع منا، فقد فعلها قبل أكثر من قرن من الزمان، حين ضاقت الدنيا بفلسفته، ورأى ما فعل الأوغاد بأمته ألمانيا وبالعالم. لم يكن هناك خيار أمامه سوى اللجوء إلى الشارع، وإطلاق صرخته الشهيرة التي ما تزال تدوي في آذاننا.
أي مغفرة ترجى بعد هذه المعرفة؟!