بعيداً عن الحرب الوحشية في غزة، التي حصدت أرواح آلاف الأبرياء، فإن الصورة الإعلامية التي يريد الغرب ترسيخها لعموم العرب والمسلمين خطيرة جداً وقابلة لأن تطول الجميع، حتى من يمتلك علاقات جيدة مع الدولة العبرية. ففي مجال الإعلام السياسي، ثمة حقيقة مفادها بأن بناء صورة إعلامية متماسكة أكثر فاعلية في تحقيق الأهداف السياسية من توفير المعلومات التفصيلية.
وحسب وليام غامسون، فإن «إنتاج» الصورة يفوق سرد الحقائق والمعلومات للجمهور، ذلك أن الصورة تشكل قلب القضية المطروحة في الإعلام. هذا ما نراه في جميع الأحداث التي يتم تغطيتها إعلامياً، فالصورة ترْسخ في ذاكرة المتلقي الذي ينسى مع مرور الزمن الكثير من حيثيات القصة الأصلية. ولنستحضر صورة محمد الدرة التي رسخت في أذهان العالم الذي نسي معظمهم انتفاضة عام 2000 في الوقت الذي خلدت فيه صورة الطفل الذي يُقتل محتضناً أباه.
في الفترة التي تلت نهاية الغزو السوفياتي لأفغانستان، تصاعدت صورة المسلم العنيف بشكل ملفت. فرغم قِدَمِ تصوير العرب والمسلمين بشكل سلبي في هوليوود، فإن الصحافة الأميركية وضعت صورة إيجابية مؤقتة خلال فترة «الجهاد في أفغانستان». تمت إعادة ضبط الصورة لاحقاً عن طريق التركيز على أسامة بن لادن مثالاً واضحاً لـ«بربرية» الشرق ودينه «الذي يشرعن العنف». بعدها، أصبح الإعلام الغربي يسير بنظام «حدثوا عن المسلمين ولا حرج» تارة عن طريق اقتطاع صورة من سياقها، وتارة بحجة الدراما وحرية التصرف في القصة الدرامية.
في جانب اجتزاء الصورة من سياقها، عانى المسلمون بشكل عام - والسعوديون بشكل خاص - من تلك الصورة التي بناها الإعلام الغربي لـ«همجية» الشرق. ولنا في أحداث 11 سبتمبر (أيلول) خير مثال. فالتركيز على عدد المهاجمين وجنسياتهم أغفل عدة حقائق؛ أبرزها الدور الغربي - الأمريكي تحديداً - في صناعة التطرف والعنف العابر للحدود.
يؤكد جاك شاهين في بحثه الذي نشره عام 2001 بعنوان «العرب السيئون: كيف تشوّه هوليوود شعباً» على هذا الأمر، ويذكرنا بأن التشويهات والأكاذيب تحت ذريعة حرية المعالجة الدرامية إنما هي أعذار واهية لصانعي الأفلام من أجل تمرير أجندتهم الاستشراقية المتعالية. يقول شاهين: «العرب هم الفئة الأكثر تعرضاً للإهانة في تاريخ هوليوود. لقد تم التركيز على تصويرهم بأنهم بشر دون المستوى (Untermenchen) وهو مصطلح استخدمه النازيون لتشويه صورة الغجر واليهود... لقد اطلعتُ على أكثر من ألف فيلم على مدى تاريخ هوليوود ووجدتُ أنه من الواضح الإصرار على صورة نمطية بغيضة ثابتة حول العرب، صورة تجرّد شعباً كاملاً من إنسانيته. لقد التقطنا بعض الصور المنظمة وكررناها مراراً وتكراراً. لذا، سواء كان الشخص يعيش في بادوكا، كنتاكي أو وود ريفر، إلينوي، فإن الخبر أو الصورة التي تصلهم واحدة».
لنأخذ على سبيل المثال فيلم «الأصابع الخمس» الذي عُرض عام 2006. تدور الأحداث حول شاب أميركي طيب يسافر للمغرب بهدف تمويل برنامج غذاء للأطفال الفقراء. لكن الإرهابيين يختطفونه ويقتلون مرشده السياحي. يركز الفيلم في الغالب على تعذيب البطل من قبل رجل ملتحٍ وامرأة محجبة، بما في ذلك قطع أربع من أصابعه قبل الإجهاز عليه. في نهاية الفيلم يتضح أن الرجل والمرأة كانا منتحلين لهوية مسلمين، وأن مسرح جريمة الخطف في دولة غربية، بمعنى أنه تم تهريبه خارج المغرب قبل تعذيبه حتى الموت.
إلى هنا قد يعتقد البعض أن الموضوع انتهى وأن الصورة السيئة قد تم تصحيحها! غير أن هذا غير صحيح، فالمتلقي الذي تعرض لساعة كاملة من التعبئة الصورية ضد الآخر «المسلم ذي البشرة الداكنة»، لن يقبل أن يغير موقفه من ذلك الآخر بمجرد معرفته بأن «الأشرار» كانوا ينتحلون صفة المسلمين. بالطبع، لا أحد يحب أن يبدو غبياً في نظر نفسه، لذلك فالموقف الذي بُني في مخيال المشاهد عن «الإرهابيين المسلمين الذين عذّبوا الرجل الأبيض» سيثبت كأصل، ولن ينظر لمنتحلي صفة المسلمين إلا كعارض. يؤكد هذا المثال على أهمية الصورة البصرية التي تؤثر على الرسالة، الذي قال عنه وليام غامسون: «يمكن التعامل مع الصور الإعلامية التي تنتجها العملية الاتصالية كنصوص تتشكل عن طريق العديد من الصور البصرية واللغة».
غالباً ما تنعكس هذه الصور على الثقافة الشعبية للشارع الغربي. إن أفلام مثل «الأصابع الخمس» تؤكد ما طرحه غامسون حول الصورة التي يرسخها الإعلام في الذاكرة الشعبية لدرجة تحول تلك الصورة إلى واقع يصعب تغييره. عليه، لا نستغرب الخطاب الإعلامي المعادي للعرب والمسلمين، الذي نشط فوراً بعد الانسحاب السوفياتي من أفغانستان واندلاع الحرب الأهلية هناك. فتغطية الإعلام لأحداث مثل تفجير أوكلاهوما سيتي عام 1995 كانت منحازة لدرجة أن وسائل الإعلام لم تتردد في سرعة إعلان مسؤولية العرب المسلمين عن الهجوم. وكما في الفيلم، تبين أن المتورطين في التفجيرات إرهابيون بيض مسيحيون، لكن المشاعر وردّات الفعل السلبية ضد العرب والمسلمين لم تتراجع.
إن الصورة البصرية أكبر من مجرد تغطية لحدث عابر، فهي جزء من صورة كبرى تم بناؤها من أجل هدف استراتيجي يتمثل في شيطنة فئة معينة، يتم ركن تلك الصورة واستدعاؤها وقت التعبئة. ولنا في تجميد الصورة السلبية لـ«الروسي الشيوعي» التي تم بناؤها في فترة الحرب الباردة خير مثال؛ حيث تم استدعاؤها في أحداث حرب أوكرانيا بشكل احترافي. حتى وإن لم يتم التطرق للشيوعية، فإن صورة «الوحش الروسي» قد تم استدعاؤها من أجل حشد التأييد ضد الروس في حربهم مع أوكرانيا.
إن تصريحات بايدن حول قطع رؤوس الأطفال الإسرائيليين، وتصريحات وزير خارجيته بلينكن حول قلع العيون وتقطيع صدور النساء، مثال حي على تلك الصورة التي تم بناؤها بشكل ممنهج. لم يطلب الجمهور من رئيسه أو وزير خارجيته إثباتات على دعاويهم، فمثل تلك الأفعال الوحشية أمر متوقع من العرب والمسلمين.
بعيداً عن الموقف العربي من «حماس» وأصل فكرة الحرب في غزة، فإن الخطاب الاستعلائي الذي يمارسه الإعلام الغربي يقوم على «كليشه» جاهز يستهدف أي خصم من منطقة الشرق الأوسط. ولنا في تصريحات بايدن وغيره من سياسيي واشنطن ضد المملكة العربية السعودية في السنوات الماضية خير دليل على أن الصورة الإعلامية وسيلة لشيطنة الآخر، وما مسألة التحديد لفئة أو دولة ما إلا لتركيز الجرعة على العدو الآني الذي يتغير بتغير الحاجة الآنية لواشنطن.