الإنجاز الحقيقي لحركة «حماس»، علمت القيادة أم لم تعلم، هو أعمق بكثير مما يكثر الكلام عنه بتسميته إنجازاً عسكرياً يُدرّس في المعاهد العسكرية. فالإنجاز الحقيقي كان في تسريع ظهور أزمة وجودية لكيان إسرائيل كانت ولفترة طويلة تستعر تحت الأرض وجاء «طوفان الأقصى» ليُخرجها إلى السطح.
إن الدولة الإسرائيلية منذ قيامها عام 1947 أُنشئت على مبادئ اشتراكية وبعض من العلمانية (رغم العنصرية والنرجسية اليهودية)، كيف لا وأركان الكيان من ديفيد بن غوريون إلى ليفي أشكول وغولدا مائير وأبا إيبان وموشي ديان وغيرهم كانوا أعمدة حزب العمال الاشتراكي. ألا تقوم فكرة الكيبوتز على تخلي السكان عن ممتلكاتهم ليتشاركوا في الإنتاج وتوزيع الثروة، أوليس هذا تجسيداً عملياً للفكر الاشتراكي الماركسي؟ إلا أن اتجاه الدولة تَغيَّر مع رئيس الوزراء مناحم بيغن الذي تبنّى التوراة ناموساً في الحياة السياسية الإسرائيلية لتصبح يهودا والسامرة مثلاً أرضاً مقدسة، والإتيان باليهود من جميع أصقاع العالم ليُقيموا في مستوطنات هجينة واجباً مفروضاً بالدين والمعتقد. وفي إحصاء لعدد المستوطنين اليهود الوافدين إلى الكيان منذ 1979 حتى عشية «طوفان الأقصى» تم تقدير الوافدين اليهود بـ4.7 مليون نسمة قَدِموا من أوروبا (الغالبية من روسيا وأوكرانيا وبيلاروسيا وبولندا تليها بريطانيا وفرنسا وألمانيا) وأعداد أخرى من أميركا وأفريقيا، جميعهم جاءوا بوعود الرخاء والاستقرار والأمان مع تعايش لبعض من التزمت الديني المجتمعي الذي ازداد مع الوقت بقدوم مستوطنين جدد ليصبح فيما بعد أحزاباً دينية يهودية متطرفة وصلت إلى مراكز القرار السياسي الأساسية.
وقد عبَّر الكثير من الإسرائيليين عن عدم الرضا عن المسار السياسي لبلدهم الذي لا يشبه في شيء ما وُعدوا به عندما حطوا الرحال في الكيان، وتعالت الصرخات المدوية ضد بنيامين نتنياهو التي كانت في الظاهر ضد تغييرات في النظام القضائي لمصالح سياسية، ولكنها في العمق كانت رفضاً لنظام عقيم لا يلبّي طموحات الكثيرين.
وأمام هذه المشهدية جاءت عملية «حماس» لتقضي على ما تبقى من الحلم الموعود ولعله الأهم: أي الأمان، لتبقى أمام المستوطنين أرض مملوءة بالتزمُّت والعنف والخوف والفساد، وقد أظهرت منصات التواصل وشاشات التلفزيون مناظر حشود المسافرين الإسرائيليين في مطار بن غوريون في تل أبيب يَهمّون بالهروب إلى البلاد التي أتوا منها.
مشكلة نتنياهو الذي لا يتمتع بأي من مؤهلات رجال الدولة أنه أسير التحالف مع الأحزاب المتطرفة التي ستُنهي تحالفها إذا لم يُقْدِم على دخول غزة، وبذلك عليه حل الحكومة ودخول السجن لأحكام صادرة بحقه. والرجل على قناعة أيضاً أنه ما لم يُقْدم على إنهاء الخطر الآتي من «حماس» و«حزب الله»، فإنه سيفقد ثقة الشعب اليهودي الذي ما زال يحمل جنسيات البلاد التي جاء منها وسيعود إليها بلا تردد إذا لم يلمس ضمان الأمان من دولة قوية تحميه وتذود عنه. ومن جهة أخرى يعلم نتنياهو أن دخول غزة يمكن أن يؤدي إلى خسائر أكبر بكثير من تلك التي نتجت عن «طوفان الأقصى»، وهذا ما صارحه به الرئيس الأميركي جو بايدن، ورئيس الوزراء البريطاني ريشي سوناك، وهنا المعضلة الحقيقية الأكبر في تاريخ إسرائيل.
إنها معركة وجودية للكيان بكل ما في الكلمة من معنى، والتي من الصعب إذا لم نَقُلْ المستحيل على حلفاء إسرائيل، وأولهم الولايات المتحدة، أن يتخلوا عنها.
لكن كيف وصلت «حماس» التي هي ليست دولة لتواجه أزمة وجودية، بل ميليشيا وغير معترف بوجودها دولياً لا بل تعد مجموعة إرهابية تُلاحَق في كثير من الدول... كيف وصلت إلى مستوى التهديد هذا؟
استخدمت الحركة، التي أسسها اللاجئ الفلسطيني الشيخ أحمد ياسين في الانتفاضة الأولى في عام 1987 مع تعهد بإبادة دولة إسرائيل، الاختصار العربي «حماس» لحركة المقاومة الإسلامية، في إشارةٍ إلى انتمائها المبكر إلى جماعة الإخوان المسلمين. حصلت المجموعة على المزيد من الدعم العسكري والآيديولوجي -من الداخل والخارج- مع قوة مقاتلة يُعتقد أن عددها لا يقل عن 30 ألفاً، ومستودع للطائرات من دون طيار بعيدة المدى.
مع مزيج من العنف والعطاء الخيري، سيطرت «حماس» على قطاع غزة في عام 2007، إذ حكمت منذ ذلك الحين. لكن الأهم من ذلك، أن قدرة «حماس» المستمرة على القتال ترجع إلى أبرز متبرع لها: إيران. فلا تزال إيران أهم دولة راعية لـ«حماس»، وهو أمر يجب عدم إغفاله بالنظر إلى دور طهران كدولة أولى راعية للإرهاب في العالم. بالنسبة لـ«حماس»، يُعتقد أن هذا الدعم مالي ومادي على حد سواء. منذ عام 2014 على الأقل، تعمل إيران على مساعدة «حماس»، فضلاً عن وكلائها الآخرين في «محور الممانعة»، لإنتاج قدرات الضربة بعيدة المدى مثل الصواريخ.
ظهرت تقارير تفيد بأن مسؤولي الأمن الإيرانيين، و«حزب الله» اللبناني، والفصائل الفلسطينية الأخرى، لعبوا دوراً محورياً في التخطيط للعملية المفاجئة، المدبَّرة خلال اجتماعات عدة في بيروت. وفي الوقت نفسه، لم تعلق وكالات الاستخبارات الأميركية بعد على ما تعتقد أنه قد يكون هناك دور دقيق لإيران. ساندت طهران منذ الهجوم عمليات «حماس» ولكنها نَفَت تنظيم الهجمات. ومع ذلك، وضعت إيران كل خلافاتها الآيديولوجية جانباً مع «حماس» لتوريد المعدات العسكرية، في المقام الأول في مجال الصواريخ، فضلاً عن التدريب والتمويل بما يزيد على 100 مليون دولار سنوياً. اللافت أنه حتى الآن الحكومتان الأميركية والإسرائيلية تدّعيان «عدم وجود دليل» على دور إيراني في هجوم «حماس» على إسرائيل ليس لأنه لا يوجد أي شيء، ولكن في المقام الأول لأن قول ذلك في الظروف الحالية من شأنه أن يفرض الطابع الإقليمي للصراع الحالي، وهو ما يريد الجميع تجنبه. ولكن في الحقيقة، لا يوجد ما يُقنع بأن تطلق «حماس» مثل هذه العملية الجريئة والمُغَيّرة لقواعد اللعبة من دون مشاركة إيران بالكامل ومن البداية. ادعاء خلاف ذلك هو ببساطة غير منطقي. إيران بذلك اعتقدت أنها سحبت البساط من تحت أقدام اللعبة التي كانت منطلقة. وحدها تعتقد ذلك.
وكانت إسرائيل قد سمحت لدولة قطر بإعطاء الملايين كل عام لسكان غزة -عبر «حماس»- لتحسين نوعية الحياة وتمكين دفع الرواتب الحكومية في الوقت المناسب، وبالتالي ردع الحروب المستقبلية. ولكن في أعقاب الانفجار الأخير، سعى المسؤولون الإسرائيليون إلى وقف التدفق النقدي بسبب خطر استخدام الأموال لأغراض عسكرية بدلاً من مساعدة الناس. بكل هذه الأموال وجدت «حماس» طريقة لبناء ترسانة ضخمة من الأسلحة والصواريخ. لكنّ «حماس» نفسها لم تبنِ مأوى واحداً في غزة لسكانها المدنيين.
ثم هناك تركيا الحليف القديم لـ«حماس» التي سمحت للمجموعة بالاحتفاظ بمكاتب سياسية على أراضيها بالإضافة إلى تزويد كبار قيادييها بجوازات السفر والملاذ.
وتقوم «حماس» بجمع الضرائب والرسوم من الشركات والأفراد في غزة وتُتهم بالتربح من عمليات التهريب عبر الحدود بين مصر وغزة. وتتلقى منذ فترات طويلة مساعدات مالية من مجتمعات الشتات الفلسطينية والجمعيات الخيرية، وتنفق الأمم المتحدة أيضاً مئات الملايين سنوياً لدعم سكان غزة، في حين تكرس الولايات المتحدة وحلفاؤها الأوروبيون أيضاً عشرات الملايين لإغاثة الفلسطينيين في غزة. الرد على هجوم «حماس» سيطول حتماً إيران. يقول لي أحد المراقبين: من حيث المبدأ، تحتاج واشنطن إلى تغيير جذري في سياستها الإيرانية، والابتعاد عن الطاولة بشأن الاتفاق النووي أو أي اتفاق أقل، والعودة إلى التطبيق الكامل والقوي للعقوبات النفطية والبتروكيماوية التي ورثتها الإدارة ولكنها كانت مترددة في تنفيذها. يجب حدوث تغيير جذري في وضع الاقتصاد الكلي في طهران، لأنه كلما زادت إيراداتها، أصبحت أكثر عدوانية وجرأة هي وجماعاتها.