د. آمال مدللي
مستشارة في الشؤون الدولية - واشنطن
TT

الحاجة لتفادي أزمة غذاء عالمية

استمع إلى المقالة

إعلان روسيا وقف مبادرة البحر الأسود لإخراج القمح والسماد الأوكراني إلـى الأسواق العالمية ذكّرني بعنوان رواية غبرييل غارسيا مركيز «قصة موت معلن».

فمنذ تم الاتفاق كانت بذور هشاشته تنذر بنهايته يوماً ما. وإن كان الكثيرون ما زالوا يأملون بالعودة إليه، فإنه لا يشكل حلاً مستداماً لتفادي أزمة غذاء عالمية لعدة أسباب. أهمها طبيعته غير المستقرة، وبقاؤه مهتزاً بين التطبيق والتعليق؛ لأنه مرتبط ارتباطاً مباشراً بالصراع الدائر والرغبة في استخدامه للضغط والإحراج أمام الرأي العام العالمي.

رد الفعل العالمي كان مفهوماً لما له من تبعات محتملة على أسواق الغذاء العالمية وعلى رغيف الخبز للكثير من الدول، وخصوصاً الفقيرة أو التي تعتمد بشكل رئيسي على القمح والذرة والسماد الأوكراني والروسي.

الردّ الأقوى كان من الأمين العام للأمم المتحدة الذي عمل مع تركيا وأوكرانيا وروسيا على التوصل إلى هذا الاتفاق بسبب القلق الكبير من إمكانية أزمة غذاء عالمية لم يكن العالم ليتحمل تبعاتها السنة الماضية عندما كانت غيوم عاصفة دولية متعددة الرؤوس تهدد الجميع، وخصوصاً الدول الفقيرة. فإلى الحرب الروسية في أوكرانيا، وأزمة المناخ، والأزمة الاقتصادية والمالية العالمية وتبعات جائحة «كوفيد»، كان آخر شيء يحتاجه العالم هو أزمة غذاء.

الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش أسف لقرار روسيا. وقال إن قرار وقف المبادرة سيشكل ضربة للمحتاجين في كل مكان. وبعدما لاحظ أن المبادرة ساهمت في خفض الأسعار أكثر من 23 في المائة منذ مارس (آذار) الماضي، وسمحت بعبور 32 مليون طن من الغذاء من موانئ أوكرانيا إلى العالم، حيث مئات الملايين يواجهون الجوع أو أزمة غلاء معيشة؛ قال إن «هدفنا هو أن نستمر في العمل على تأمين الأمن الغذائي واستقرار الأسعار العالمية، بسبب العذاب الذي سيلحق بالبشر جراء هذا القرار».

وعلى الرغم من التشوش وعدم التأكد مما إذا كانت روسيا أوقفت المبادرة أم أنها علقتها، فإن رسالتها إلى الأمم المتحدة كانت واضحة واستخدمت كلمة «وقف» وليس «تعليق» مثلما قال البعض.

الولايات المتحدة اتهمت الرئيس الروسي بأنه يستخدم الغذاء سلاحاً، وحثت روسيا على العودة عن قرارها فوراً. في مجلس الأمن تحدث الجميع عن تأثير القرار على الغذاء العالمي، وخصوصاً على الدول الفقيرة، لكن المندوب الروسي اشتكى من أن الاتفاق تحول «من اتفاق إنساني إلى اتفاق تجاري»، حسب قوله، وقال إن غالبية المواد التي خرجت ذهبت إلى دول دخل مرتفع والقليل ذهب للدول الفقيرة، وادعى أن 2.2 في المائة فقط من المواد الغذائية التي خرجت من أوكرانيا ذهبت إلى برنامج الغذاء العالمي التابع للأمم المتحدة.

وهذا هو الموقف الروسي الرسمي الذي يقول إن أحد أسباب وقف المبادرة هو أنها لا تفيد الدول الفقيرة. ونقلت الـ«بي بي سي» في تقرير لها عن الأمم المتحدة أن 57 في المائة من المنتجات الغذائية التي صدرتها أوكرانيا حسب اتفاق البحر الأسود ذهبت إلى الدول النامية، وأن 43 في المائة ذهبت للدول المتطورة، وأن أكبر المستفيدين كانوا إيطاليا وإسبانيا والصين وتركيا، ولكنها في تقرير آخر استخدمت أرقاماً أخرى قالت إن النسبة التي ذهبت إلى الدول ذات الدخل المنخفض هي 27 في المائة فقط. أما الأمم المتحدة، فقالت إن المبادرة أمنت أكثر من 725.000 طن من القمح لبرنامج الغذاء العالمي.

وفي إشارة إلى استياء روسيا من الأمم المتحدة اتهم المندوب الروسي في مجلس الأمن، سكرتارية الأمم المتحدة بإعطاء وعود فارغة لروسيا. وهو يقصد هنا مذكرة التفاهم بين روسيا والأمم المتحدة المتعلقة بتصدير روسيا لمنتجاتها أيضاً، خصوصاً السماد الحيوي.

فروسيا تشتكي أن الجانب المتعلق بمذكرة التفاهم معها حول تصدير موادها، وخصوصاً خط تصدير السماد الحيوي عبر خط أنابيب، لم ينفذ، وأن العقوبات تؤثر على تحصيل مستحقاتها من بيع موادها. وتطالب بأن يتم إعادة إدخال بنكها الزراعي إلى نظام «سويفت» المالي العالمي لكي تستطيع تحصيل أموالها.

في واشنطن قلق من وقف المبادرة. هناك من هو متخوف من أن تؤدي إلى ارتفاع خطر النزاع مع «الناتو». القائد الأعلى السابق لحلف «الناتو» جيمس ستافريديس قال إن «الناتو» ربما يعمد إلى مواكبة السفن التي تحمل الحبوب والسماد من موانئ أوكرانيا، وهذا ربما يضعها في مواجهة مع البحرية الروسية، وهذا سيكون خطيراً، ولكنه «العمل الصحيح».

أما الإدارة الأميركية فتخوفها سياسي ويتعلق بتأثير الوقف على سوق الغذاء العالمية، والأميركية أيضاً، وارتفاع الأسعار بعدما جهدت الإدارة لضمان استقرار الأسعار وخفضها مع سنة انتخابية على الأبواب، لكن أهم رسالة يرسلها هذا القرار هي أن هذا الصراع طويل الأمد، وينبئ بما هو أسوأ في ظل تشدد كل من الطرفين بموقفه، والانعدام الكامل لأي إرادة ظاهرة لحله سياسياً. هذا يعني أن القمح والحبوب والسماد الحيوي وسوق الغذاء سيبقون رهائن الحرب ولن يجري تحييدها على الرغم من كل الوعود. لقد خبرت هذا ووصلت إلى نتيجة مماثلة عندما تقدمت مع مجموعة من البلدان معظمها من الدول النامية بمشروع قرار في الجمعية العامة للأمم المتحدة حول الأمن الغذائي العالمي بعد الهجوم الروسي على أوكرانيا. كانت المفاوضات شاقة، وكنا على وشك أن نخسر القرار الذي يطالب بمساعدة الدول الفقيرة التي تعتمد على القمح الأوكراني والروسي على أن تتجنب أزمة غذاء وتتفادى خطر المجاعة. كاد إصرار طرفي النزاع وحلفائهما على إدخال لغة على القرار تدعم موقفهم السياسي، يطيح بمشروع القرار الهادف إلى تجنب أزمة غذاء عالمية.

هذا لم يتغير اليوم، وما زالت مسألة الغذاء العالمي تستخدم سلاحاً ضد الآخر. لذلك يجب سحب هذه الورقة من ساحة الحرب عبر تنويع مصادر الحبوب والغذاء العالميين. هذا لا يعني التخلي عن مبادرة البحر الأسود أو عن المصادر الأوكرانية والروسية، وإنما يعني سلبها الأهمية التي تجعلها سلاحاً عبر إيجاد أسواق أخرى وخلق البيئة لإنتاج يوفر للسوق العالمية استقراراً ويرفع سيف الجوع عن رقبة الفقراء. فيجب مثلاً مساعدة أفريقيا التي لديها 60 في المائة من الأراضي القابلة للزراعة في العالم عبر الاستثمار في الزراعة الأفريقية.

هذا إضافة إلى أن الحرب أثرت كثيراً على إنتاج القمح في أوكرانيا، فانخفض 35 - 40 في المائة حسب التقارير، وبعض الأراضي الزراعية موجودة في مناطق القتال. كما أن تدمير سد كاخوفكا الشهر الماضي أدى إلى فيضانات دمرت آلاف الهكتارات من الأراضي الزراعية.

الحرب في أوكرانيا وضعت إسفيناً في مركب التعاون الدولي والعمل المتعدد الأطراف، ونحن نرى ذلك يومياً في الأمم المتحدة، خصوصاً في مجلس الأمن العاجز عن اتخاذ أي قرار يضمن الأمن والسلم الدوليين، كما نراه في عجز «مجموعة العشرين» عن التوصل إلى إجماع أعضائها بسبب الخلاف على اللغة المتعلقة بالحرب الأوكرانية.

إن المطلوب اليوم في غياب القدرة على تحييد ملف الغذاء العالمي عن تبعات هذه الحرب، أن يركز العمل المستقبلي - وبسرعة - على إيجاد بدائل آمنة وموثوقة؛ لأن رغيف الفقراء لا يجب أن يتحول إلى أداة حرب.