خالد البري
إعلامي وكاتب مصري. تخرج في كلية الطب بجامعة القاهرة، وعمل منتجاً إعلامياً ومراسلاً سياسياً وحربياً في «بي بي سي - عربي»، وغطى لحسابها «حرب تموز» في لبنان وإسرائيل، وعمل مديراً لمكتبها في العراق. وصلت روايته «رقصة شرقية» إلى القائمة النهائية لـ«بوكر العربية».
TT

نظّارة الوعي أسقطتني أرضاً

استمع إلى المقالة

اشتريت نظارة الواقع الافتراضي قبل سنوات، جلست على الكنبة في غرفة المعيشة، ارتديتها، فتغيرت حياتي فوراً. صرت في غرفة أحلامي، واسعة، ومرتبة، وذات ديكور مميز، وأثاث راقٍ، على يميني مدفأة جمر قزحية اللهب، وعلى يساري نافذة إلى شاطئ وماء. أشاهد فيلماً تسجيلياً لرئيس أميركي سابق وزوجته، فكأنهما على بعد خطوات مني، لو مددت يدي سأربّت على أكتافهما. خلعت النظارة، فإذا حياتي كما هي لم تتغير، بل صارت غرفة المعيشة في شقتي أسوأ، وأضيق.

ارتديت النظارة مرة أخرى وأنا جالس على كرسي مكتبي فصرت قائد طائرة مقاتلة. المشكلة أن المناورات تستلزم هبوطاً فجائياً حاداً، يشبه المطبات الهوائية العنيفة. أتلقى المطب في بطني وينسحب جسمي انسحاب السقوط المفاجئ، وتتقلب أحشائي. عبثاً أحاول أن أقنع عقلي بأنني جالس على كرسي لم أتحرك. أحاول إكمال اللعبة، أدوخ وأوشك أن أتقيأ كأني في رولر كوستر دوار في مدينة الملاهي.

تحدتني صديقتي أن أخوض تجربة «Richies’s Plank»، ارتديت نظارة الواقع الافتراضي. صعد بي المصعد، ثم انفتح الباب، وعليَّ الآن أن أسير على لوح خشبي ضيق. المشكلة أنني على ارتفاع 80 طابقاً فوق الأرض. والنظر إلى أسفل مرعب. ومن الصعب أن تطمئن إلى السير على لوح الخشب من دون أن تنظر إلى قدميك. ومرة أخرى، حاولت إقناع عقلي بأنني في شقتي، وأن الأرض حولي واسعة، لن أسقط أبداً ولن يصيبني مكروه، بلا جدوى. بل حاولت إقناعه بالغش حفظاً لماء وجهي، أن أغلق عينيّ فلا أرى ما تعرضه عليّ النظارة، وأمشي إلى الأمام، فلم يقبل. أحاول أن أخطو فتتيبس قدماي وتفقدان مرونتهما وتوازنهما، أدفع نفسي دفعاً فأتعثر وأسقط في مكاني، في شقتي.

لدى الإنسان نوعان من الوعي تطورا بتطوره عبر ملايين السنين. الأول وعيه بالطبيعة من حوله. وهو وعي عملي لا مزاح فيه. يعلم الإنسان يقيناً أن الأسد لو انفرد به سيفترسه. ويعلم أيضاً أننا لا نطير، ولا نتنفس تحت الماء. ويعرف أن الأرض تجذب الأشياء نحوها. نعلم ذلك حتى قبل أن نصوغ قوانينه ونفسره تفسيراً علمياً. ونخضع له سواء علمنا به أو لا، اقتنعنا به أو لا. الطفل الرضيع الذي يحبو نحو ماء عميق سيغرق، ستنهي الطبيعة حياته، بلا قسوة ولا شفقة، بل لمجرد أن هذه «طبيعة الأمور». والإنسان الذي يتقاطع طريقه مع أسد سيفترسه. وهكذا. لا نحتاج هنا إلى جدل، ولا حجج متقابلة، ولا سفسطة. التجربة كفيلة بالحسم. يمكن تسمية هذا «الوعي العملي» أو الطبيعي.

النوع الثاني من الوعي هو تفسير الإنسان لما يجري حوله. نستطيع أن نطلق على هذا النوع «الوعي الافتراضي». وهو نوع يختلف باختلاف الزمن، وصواب المعرفة؛ أي درجة اقترابها من الوعي الطبيعي أو بعدها عنه. لكن، على كل ما ذكرنا أعلاه، يظل الوعي الافتراضي هذا سيد عقل الإنسان، والمتحكم فيه. في مرحلةٍ ظن البشر أن تقديم قربان بشري إلى بركان يهدئه. ولو جادلهم شخص في هذه الفكرة لكان من الصعب إقناعهم بعكسها. هذا الوعي الافتراضي امتد إلى الكون كله، من أول حركة النجوم والكواكب، إلى شكله، والقوانين التي تحكمه. كل هذا بلا دليل عملي.

قد نظن أن التقدم العلمي قضى في كل مجال سبره على الوعي الافتراضي لصالح الوعي العملي. لكن لا. يستمر الوعي الافتراضي في المقاومة. وبعد فترة من المقاومة يتنازل ويرضى بالمجاورة. فيتناول جرعة الدواء وفي نفس الوقت يذهب إلى طارد أرواح.

قبول الوعي العملي، ليس تصرفاً تلقائياً كما قد نظن. والعيش في «وعي افتراضي» ليس عَرَضَاً من أعراض الأمية كما قد نظن. كثير من أفكار الكتب، الأكثر شيوعاً، ليست أكثر من محفزات لغوية لوعي افتراضي، تفعل في العقل ما تفعله نظارات الواقع الافتراضي. تقدم أكذوبة أجمل من الحقيقة وأكثر جاذبية، يتمنى معظم الناس أن يصدقوها.

الوعي الافتراضي ترسخ داخل عقل الإنسان القديم في مواجهة المجهول المرعب؛ إذ قدم له إجراءات مقدوراً عليها، لو فعلها ستحميه من غضب إله البحر، ومن نار بركان الجبل، ومن انشقاق الأرض واحتجاب الشمس. لا يزال هذا مستمراً معنا إلى يومنا بتفاصيل أخرى. لكن الإنسان المعاصر يشعر بالخجل من الإقرار بهذا، فيراوغ عقله بوسائل معاصرة. يروج لأفكار الوعي الافتراضي على أنها اختيار أسمى. الآن، كلما رفعت الأفكارُ شعاراً أخلاقياً منمق الكلمات أتحسس عقلي. الجهد المبذول في صياغة الشعار أكبر من المبذول في اختبار الفكرة واقعياً. كلمات من زهور القاموس ووروده مثل التنوع والمساواة والعدالة صارت حصان طروادة. يرقد في باطنها بعض من أكثر الأفكار خلواً من الوعي العملي وتخمةً بالوعي الافتراضي. تتغلب بجمال اللفظ، وبقوة الدعاية، على إدراك عقولنا للواقع العملي.

أفكار الوعي الافتراضي منتشرة في مناحي الحياة جميعها، وفي تيارات وبيئات مختلفة، بين محللي الاقتصاد كما بين كتّاب السيناريو ومخرجي الأفلام وقادة الأحزاب. لكن الجدير بالملاحظة أن تركّزها أعلى في التيارات التي تشدد على فضيلة «الوعي». الشيوعيون اعتادوا استخدام اللفظ للترويج لأسوأ أفكار الاقتصاد وأبعدها عن الواقع. وتيارات الـ«woke» الأميركية المعاصرة تكرر سيرتهم في نواحٍ أخرى من حياتنا. ليست هذه مصادفة. يعلم الوعي الافتراضي أن الوعي الطبيعي عائقه الأكبر. فيحتكر كلمة الوعي لنفسه، كأنما ينزعها عن الوعي الطبيعي بالكلية. هكذا فعلت بي نظارة الواقع الافتراضي، أو لنسمها نظارة الوعي الافتراضي.