نجيب صعب
الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»
TT

تغيير أساليب الحياة للحفاظ على الحياة

الحلّ التقليدي لمعالجة مشكلة استنزاف الموارد الطبيعية ونضوبها كان دائماً البحث عن موارد جديدة، باعتماد أساليب تكنولوجية مستحدثة. لكن تبيّن أنّ حصر الاستجابة في زيادة الإنتاج لتلبية الاستهلاك المتزايد يضع العالم في حلقة مفرغة. فالاستمرار في الدوران حول المشكلة، بدلاً من التصدّي لها مباشرة، لا يُطيل أمدها فقط، بل يزيدها تعقيداً.
أساس المشكلة أنّ البصمة البيئية للبشر تتجاوز قدرة الأنظمة الطبيعية على الإمداد بمزيد من الموارد، وامتصاص الفضلات بلا تدمير للبيئة. وفي حين تتجاوز البصمة البيئية للعالم اليوم الحد الأعلى بنسبة 80 في المائة، فهي تصل في المنطقة العربية إلى الضعف. أي أن استهلاكنا يتجاوز مرتين الحدود التي تسمح للطبيعة بالاستمرار في تلبية الاحتياجات. ومنذ نشَرَ المنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد) عام 2012 هذه الأرقام في الدراسة الأولى التي أجراها عن البصمة البيئية في البلدان العربية، بعنوان «خيارات البقاء»، يشكّك البعض بالنتائج. والحجّة أنّ الناس استمروا في العيش بعد سنوات من تخطي الحدود القصوى، مما يعني أنّ الأنظمة الطبيعية مطاطة وقادرة على التكيُّف. لكنّ هذا فهم خاطئ كلّياً ولا يستند إلى الوقائع. ذلك أن كل ما نصرفه اليوم بما يفوق قدرة الطبيعة على التجدُّد، أو ما نرميه من ملوّثات في الأرض والجو والبحر بما يفوق طاقتها على الاستيعاب والامتصاص، هو استدانة من الرصيد الذي تختزنه للأجيال المقبلة. وإذا استطاعت الحكومات معالجة تراكم الديون المالية بطباعة مزيد من الأوراق النقدية في انتظار مرحلة ترتفع فيها مداخيلها، إلا أنّه يستحيل «طباعة» أوراق جديدة لسدّ فاتورة إفلاس الطبيعة حين تخسر موارد يتعذّر تجددها.
التكنولوجيا ضرورية لحلّ كثير من المشكلات البيئية، ولكن ليس بمعزل عن تعديل في أنماط الاستهلاك. وعلى سبيل المثال، فزيادة إنتاج الغذاء في معظم البلدان العربية غير ممكنة بلا تعميم تكنولوجيات حديثة، من تحسين نوعية البذور إلى استخدام أنواع من الأسمدة والمبيدات الملائمة، إلى تحديث المعدات والآلات في عمليات الفلاحة والحصاد والنقل والتخزين والتصنيع. لكنّ التركيز على زيادة كمّيات الإنتاج فقط يضع في مرتبة متأخّرة بعض المسائل التي تسبقها، وفي طليعتها تعزيز كفاءة الإنتاج ووضع حدّ لتلف المحاصيل أثناء النقل والتخزين، مع التعوُّد على أنواع جديدة من الطعام تحتوي مكوّنات يمكن إنتاجها في المناطق الجافة والحارة وتتطلب كميات أقل من المياه. وقد وجد تقرير عن الأمن الغذائي أصدره «أفد» أنّ تَلَفَ المحاصيل في المراحل التي تلي الحصاد يصل إلى 25 في المائة في المنطقة العربية، وأنّ كمّية الحبوب المستوردة التي تتعرّض للتلف أثناء التخزين توازي 40 في المائة من الإنتاج المحلي. أما اختيار المحاصيل الملائمة لطبيعة الأراضي، مع استخدام أساليب ريّ موفِّرة، فيمكن أن يؤدّيا إلى مضاعفة الإنتاج مع توفير كبير في مياه الريّ، تطبيقاً للقاعدة الذهبية: «إنتاج أكبر بمياه أقلّ».
وما يصحّ في نطاق الغذاء ينطبق على الطاقة والمياه ومسائل أخرى كثيرة في حياتنا. والسيارات الكهربائية، كما ألواح الخلايا الضوئية لإنتاج الكهرباء، نموذجان على طغيان الممارسات الاستهلاكية، حتى عند اعتماد الأنظمة المتجددة، بمعزل عن تغيير المفاهيم. فتلبية رغبات شريحة من المستهلكين بركوب سيارات سريعة فارهة دَفَعَ المصنّعين إلى إنتاج مركبات كبيرة، رباعيّة الدفع، تعمل على الكهرباء. فهذه تلبّي نهم الأسواق من جهة، كما تواكب، نظرياً، المتطلّبات الحكومية الجديدة بالتحوّل عن استخدام البترول لوقف الانبعاثات. إلا أنّ تصنيع السيارات الكهربائية الضخمة يستهلك كمّية كبرى من الموارد الطبيعية، ويُصدِر انبعاثات كربونية قد تفوق تلك الصادرة من محركات الاحتراق الداخلي التقليدية. كما تتطلّب، بسبب حجمها ووزنها، بطاريات كبيرة لتشغيلها، بدلاً من استعمال قدرة البطارية لزيادة المسافة التي يمكن للسيارة أن تقطعها بعد كل عملية شحن كهربائي. ثم إنّ كثيرين يعمدون إلى زيادة الاستهلاك عند التحوّل إلى الكهرباء الشمسية، باعتبارها رخيصة، مما يزيد استخدام المواد الأوّليّة لتصنيع كميات أكبر من اللاقطات. فإذا لم تُعتمد تدابير ملائمة لترشيد استخدام الطاقة، مهما كان مصدرها، وتطويل العمر الافتراضي للألواح الشمسية والبطاريات، وحصر حجم السيارة الكهربائية وقوّتها على ما يحتاجه الناس لقضاء أمورهم، بدلاً من بناء سيارات كبيرة بمحركات سريعة، نكون قد ألغينا فوائد التحوّل إلى الكهرباء النظيفة. فالكهرباء من الشمس أو الرياح أو أي مصدر آخر تتطلّب استخدام مواد أوّليّة ثمينة لصنع اللاقطات والمعدات وشبكات التوزيع وبطاريات التخزين، وهي ليست هبة يمكن الحصول عليها مجاناً. وحين لا يواكب «تنظيف» عمليات الإنتاج تغيير جذري في أنماط الاستهلاك، فالعالم مهدّد بخسارة كلّ التوفير المفترض.
منذ سنوات، تضع فنادق كثيرة إشعارات داخل الغرف، تتمنى فيها على الضيوف «المساعدة في الحفاظ على الموارد الطبيعية وحماية البيئة، عن طريق الاقتصاد في استعمال المياه، وعدم وضع المناشف وأغطية الأسرّة للغسل يومياً إذا لم تكن متّسخة». الفكرة سليمة ومنطقية، لأنّ غسل المناشف والأغطية في البيوت، مثلاً، يحصل عادة مرة كل أسبوع، فلماذا غسلها يومياً لنزيل يسكن غرفة فندقية لأسبوع واحد أو أقل؟ لكنّ الأكيد أنّ الفنادق تُدخِل في حساب تكاليفها الغسل اليومي لكل ما يُستخدم في الغرفة. ولأنّ الضيف يعرف هذا، فغالباً ما يمتنع عن الاستجابة لنداءات التوفير، باعتبار أنّه يدفع الثمن على كل حال، ولا يريد أن يخدم البيئة من حسابه فقط.
لفتتني مبادرة أطلقها فندق فرنسي متواضع زرته أخيراً، تُحوِّل المثاليات والشعارات إلى تطبيق عملي. فهو التزم بتقديم فنجان من الشاي أو القهوة أو أي مشروب آخر في مطعم الفندق لقاء كلّ يوم يوفّر فيه النزيل غسل المناشف، تضاف إليها قطعة حلوى إذا رافقها توفير في غسل أغطية السرير. الدرس المفيد هنا أنّ حماية البيئة تكون في الأفعال لا الأقوال، من خلال تدابير تجمع بين الروادع والحوافز ولا تكتفي بالتمنيات، مهما كانت نبيلة.
* الأمين العام للمنتدى العربي للبيئة والتنمية (أفد)
ورئيس تحرير مجلة «البيئة والتنمية»