ماريو فارغاس يوسا
روائي بيروفي حاصل على جائزة «نوبل» في الأدب عام 2010. يكتب مرتين شهرياً في«الشرق الأوسط».
TT

العودة إلى اليونان

حدث منذ نصف قرن تقريباً أن شاباً يونانياً ضاقت به السبل في السعي وراء فرصة عمل في موطنه الذي كان غارقاً في الفوضى، وقرر الذهاب إلى السويد حيث قاسى حياة المهاجرين الصعبة، فراح يكسب رزقه كيفما أتيح له واتفق، وتعلّم اللغة السويدية فيما كانت تتفتح لديه موهبة الكتابة بها. وأصابه نجاح كبير حتى أن كتابة الروايات والمقالات الأدبية تحولت إلى مصدر رزقه الأساسي. ثم تزوج من سويدية، ورزقا بأبناء، وأحفاد، واشتريا مسكناً جميلاً وبعده منزلاً ريفياً لقضاء عطلة الصيف، وشقة صغيرة كان يمضي نهاراته فيها منصرفاً إلى المطالعة والكتابة.
ذات يوم، وكان تيودور قد بلغ السبعين من العمر، أصيب فجأة بصدمة فكرية لم يكن له عهد بها من قبل. كان يجلس ناظراً إلى آلته الطابعة طوال ساعات من غير أن تخطر له فكرة واحدة تستدرجه للكتابة، فقرر الخروج للسير باتجاه البحر كما اعتاد عندما كان ينشد سكينة النفس وصفاء الذهن. لكنه لم يوفّق تلك المرة، وأمضى أياماً، وأسابيع، وأشهراً يجول في محاذاة البحر، من غير أن تنحلّ عقدة أفكاره والشلل الذهني الذي كان يسيطر عليه. ولما شاهدته زوجته غونيلّا غارقاً في تلك المتاهة، اقترحت عليه القيام برحلة إلى مسقط رأسه، في اليونان، فتجاوب معها من عميق الإحباط الذي كان يتملكه.
وصلا أثينا جواً، واستأجرا سيارة، وانطلقا باتجاه قرية مولاوي الصغيرة، حيث شهد تيودور النور، التي كانت لا تزال كما عرفها صغيراً، يملأ الغبار طرقاتها الترابية الضّيقة المحفوفة بالشوك والأعشاب البريّة التي تفوح منها عطور تذكّره أنه لم ينسها أبداً. وراح يجول بناظره في أشجار الزيتون واللوز العتيقة، فيما كان يصافح بعض معارفه وأقربائه المسنين الذين عرفوه على الفور، ويتابع من حين لآخر حركة القطط بين البيوت والماعز في الحقول المجاورة. ثم جاء من يخبره أن أساتذة المدرسة التي تعلّم فيها صغيراً قد علموا بمجيئه، وقرروا أن يقيموا له حفلة تكريمية. وما إن بدأت تلك الحفلة على أبواب الليل عندما تهبّ النسائم الناعمة التي تلطّف الأجواء من قيظ النهار، ولمع نور البدر فوق تلك البيوت الهانئة فيما كانت أصوات الأطفال تصدح ترنيماً على شرفه، شعر تيودور بدمعتين كبيرتين تتدحرجان على خدّيه وتسقطان على الأرض.
في صباح اليوم التالي، وفي الفندق الصغير، حيث كان ينزل مع زوجته، استيقظ تيودور مع بزوغ الفجر، كعادته في السويد، وتناول آلته الطابعة ثم وضعها على الطاولة، فشعر بارتعاش في كل جسده وبدأ يكتب بالقلق والخوف نفسهما اللذين كانا يتملكانه من الوقوع في الخطأ طوال السنوات الخمسين التي عاشها في السويد. لكنه هذه المرة لم يكن يكتب باللغة التي تعلّمها كبيراً، بل بلغته الأم، واستمرّ يرتعش ويزداد خوفاً فيما كانت الكلمات تنساب على الصفحات ويغمره شعور عارم بالنشوة كذلك الذي أحسّ به منذ سنوات بعيدة عندما كتب روايته الأولى باللغة السويدية.
الكتاب الذي وضعه تيودور كاليفاتيديس باليونانية، وهو الأول في تاريخه كمؤلف، ونقلته إلى الإسبانية سلمى آنسيرا بعنوان «في انتظار حياة أخرى»، ترك عندي أثراً عميقاً جداً. ليس فحسب بسبب القصة التي أوجزتها في بضعة سطور، بل أيضاً بسبب براعة الأسلوب والسرد الذي يعرضها به، كما لو أنها كانت أمراً طبيعياً وليست ذلك الحدث العاصف في حياة كاتب على أبواب الثمانين من عمره يعيد اكتشاف لغة طفولته التي كان طواها النسيان وحلّت مكانها لغة المهاجر، الذي بعد تلك الصدمة استعاد اليونانية ومعها قدرته على الكتابة التي كان يظنّ أنه فقدها. إنه كتاب جميل جداً، يسرد حكاية موت وقيامة روحانية، ويروي لنا معجزة حقيقية كما لو أنها حدث يومي عابر.
لعلّ السبب في الانطباع العميق الذي تركه كتاب تيودور كاليفاتيديس في نفسي هو أنني، خلافاً له، ليس في حياتي ما عنده؛ مثل تلك القرية في أحشاء اليونان العميقة، حيث انطلقت كل البدايات والذكريات. أنا لا أعرف أين انطلقت بداياتي وذكرياتي. قطعاً، ليس في آريكيبا، حيث كان مسقط رأسي، لأني خرجت منها مع والدتي وجدتي وأنا لم أتجاوز بعد السنة من عمري، أي قبل أن تبدأ ذكرياتي الأولى التي يدور معظمها في كوتشابامبا من أعمال بوليفيا، حيث ورثت ذكريات عائلتي من غير أن أعيشها. وفي كوتشابامبا تعلمت القراءة، وهي أفضل ما حدث لي في حياتي، لكني في الواقع بدأت أعيش فعلاً في مدينة بيورا الصغيرة التي اختفت معالمها واندثرت بفعل التطور والعمران الحديث، وحيث تعلمت أن الأطفال لا يأتون على أجنحة طيور البجع من باريس. انتقلت إلى ليما في الحادية عشرة من عمري، ومرّت سنين عديدة قبل أن أكره تلك المدينة التي أقصتني عن أجدادي وأعمامي.
كنت، وما زلت، من الرأي القائل بأن أفضل ما يمكن أن يحصل للإنسان في حياته هو أن يكون مواطناً عالمياً، وأن الحدود هي مصدر الأفكار النمطية وسبب العداوات التي تؤدي إلى الحروب السخيفة، وأنه لا بد من العمل على تقليصها تمهيداً لإلغائها بشكل كامل ونهائي. وهذا من الجوانب الإيجابية للعولمة التي، في وجهها السلبي، تزيد الفوارق الاقتصادية والاجتماعية، وتعمقها بسرعة مخيفة.
لكن اللغة الأولى، تلك التي نتعلّم بها مناداة الأهل والأحباء وتسمية الأشياء التي تحيط بنا في هذا العالم، هي وطن حقيقي نفقده أحياناً في معترك الحياة العصرية، عندما تتداخل مع لغات أخرى على ألسنة المهاجرين الذين يتدافعون في كل الاتجاهات كموجة بشرية متنامية على وقع اتساع الهوة بين البلدان الغنية والفقيرة. ولا شك في أن تجربة العيش بلغة غير اللغة الأم، أي مقاربة الحياة والتعبير عن الآراء والتجارب الذاتية بلغة أخرى، هي أصعب ما يواجه المهاجرين اليوم في بلدان العالم.
تيودور كاليفاتيديس يروي لنا كل ذلك كما لو أنه من الأمور الطبيعية والسهلة التي تحدث لنا، وأن الانتقال إلى لغة أخرى يتم بشكل طبيعي من غير أن تعترضه صعوبات، علماً بأنه بعيد عن متناول الغالبية الساحقة من المهاجرين الذين يتعذر عليهم الاندماج في مواطنهم الجديدة. لكنه يخبرنا أيضاً أنه حتى في حالات الاندماج الناجحة كحالته تبقى دفينة لكن حيّة في أعماق النفس، تلك الجذور والبدايات والمشاهد والأصوات التي فجأة تبدأ المطالبة بالحضور في الصفوف الأمامية محمولة على أجنحة الحنين الذي يستعيد مطارحه. أتذكر، في الفترة التي أمضيتها في ميرافلوريس خلال شبابي، عجوزاً بولندياً كان يعمل في تجارة الجلود بعد أن نجا من المعتقلات النازية، ويقول إنه يكره بولندا لأنه كان يعتبر أن البولنديين لم يحركوا ساكناً لمنع تلك الفظائع. وكلما أتيح لنا أن نتحادث كان يعود إلى بولندا، إلى أسرته، والقرية التي أمضى فيها طفولته، والمدينة حيث كان والده وجدّه يعملان أيضاً في صناعة الجلود، وغالباً ما كانت مقلتاه تغرورقان بالدموع مستذكراً تلك البلاد التي كان يقول إنه يكرهها.
لا ضير في أن يحنّ المرء إلى اللغة التي فقدها، والقرى والأحياء التي لعب فيها طفلاً، والمدرسة التي تعلّم فيها، والطقوس العائلية التي ترعرع بينها، شريطة ألا يطلّ من تلك الذكريات الوجهُ البشعُ للشعور القومي، لأن في ذلك مشاعر لطيفة ودافئة وضرورية كما يتبيّن لنا من كتاب كاليفاتيديس «في انتظار حياة أخرى» المفعم بالتفاؤل والإنسانية، الذي يرسم لنا الوجه الآخر للهجرة بمحبة وعرفان.