«السَّفُودُ»، هو «عود من حديد يُنظَمُ فيه اللحمُ ليُشوَى» (المعجم)، لكن أديب العربية وعالمها مصطفى صادق الرافعي، إستلّ السّفُود ليشوي فيه لحماً من نوعٍ آخر، وأي لحم..؟، إنه لحم الأديب والشاعر والفيلسوف عباس محمود العقاد، الذي خاض معه أكثر المعارك الأدبية ضراوة في القرن العشرين، فكان كل مقال ينشره في نقد العقاد يحمل عنوان السفود، وجمع تلك السفافيد في كتاب «على السفود» صدر في العام 1930.
كانت المعركة تدور رحاها بين أعمدة الصحف وفي الصالونات الأدبية، فالعقاد ينشر في جريدة «مصر»، بينما كان الرافعي ينشر مقالاته في نقد العقاد شهريّاً في مجلّة «العصور»، وهذه المعركة هي واحدة من السجالات الأدبية الساخنة التي شهدتها الثقافة في أهم حواضرها وهي مصر، كانت مؤشراً على حيوية الحراك الثقافي وفاعليته، مهما كانت حادة وشديدة الوقع. ولا يمكن قراءتها بعيداً عن جاذبية الحركة الأدبية والفكرية وقوتها في مصر آنذاك..
كتاب «المعارك الادبية في مصر» لأنور الجندي، يُعّدُ مرجعاً مهماً وسجلاً توثيقياً للسجالات الأدبية الساخنة التي كانت تخوضها النخبة الأدبية، أمثال السجالات الساخنة بين العقاد وطه حسين، وبين زكي مبارك وسلامة موسى، وبين العقاد والرافعي، وبين الزيات والمازني، وبين هيكل وطه حسين، وغيرها، وكلها كانت مؤشراً على حيوية المجتمع الثقافي في القاهرة، وتفاعله، وقوة حركته.
ما كان يحدث في مصر في النصف الأول من القرن الماضي، كان تتردد أصداؤه في بقية الحواضر الثقافية العربية، وكلما انتعشت الحياة الثفافية افرزت هذه السجالات الحادة، وكلما انكمشت واسترخت فَتَرَتْ قضاياها الساخنة. في السعودية شهدت في فترات متعددة هذا الصخب الثقافي المدويّ، يرصد الدكتور سليمان الشمري في كتابه «دراسات إعلامية في الفلسفة والادب» عدداً من المعارك الأدبية التي كان جيل الأدباء الرواد يخوضونها كالتي جرت بين الأديبين محمد حسن عواد، وعبدالقدوس الانصاري، والسجال الذي اعقب القراءة النقدية التي قدمها الأديب عزيز ضياء لكتاب «الادب الفني» لمحمد حسن كتبي والتي وصفه فيها بأنه «كتاب إنشاء مدرسي لا أكثر ولا أقل».
بسبب نظريتي «البنيوية والتفكيكية» دارت رحا المعارك في الثمانينات بين الناقد الدكتور عبدالله الغذامي والدكتور حسن الهويمل، وكانت تدور رحاها بين الصحف، كما صدرت في كتب، بدأت حين قدّم الهويمل دراسة نقدية لمحاضرتين للغذامي، الأولى: «الإنسان بوصفه لغة»، ونشرت في حلقتين، الثانية: «الخيال الشعبي في الشعر» ونشرت أيضاً في حلقتين.. ردّ عليها الغذامي بمقال تحت عنوان: «الهويمل إذا أهمل..».. أعقبه الهويمل بسلسلة من الردود نشرها في
(الرياض) بعنوان: على رسلك يا غذامي، كما أعدّ دراسة حول كتاب الغذامي: «الخطيئة والتكفير» تحت عنوان: «خطيئة الخطيئة»..
في 17 مارس (آذار) الماضي احتفلت النخبة الثقافية السعودية بأول زيارة لأدونييس، والحقيقة إن (أدونيس)، يُعّدُ المتنبي في مشهد الحداثة فكلاهما «ماليء الدنيا وشاغل الناس»، ولا يمكن تجاهل الأثر العملاق الذي تركه أدونيس في حركة الحداثة الشعرية.
لكنّ الرجل رمى حجراً كبيراً في البحيرة، لكنه لم يحدث أثراً..! ربما لأن تلك الرمية لم تجد منصة ثقافية تهتم بها، وربما لأن الكثيرين كانوا في حالة الدهشة والاعجاب والاحتفالية بالحضور البهيّ لأدونيس.
في محاضرته في الرياض بعنوان «الشعر والحياة»، قال أدونيس «من جهة الاستعادة فإن شوقي الذي سمي أمير الشعراء، إذا وضع على طاولة واحدة مع الشعراء الذين استعادهم، البحتري وأبي تمام والمتنبي والشريف الرضي تمثيلاً لا حصراً، سيكون موقع شوقي لا شيء!، لأنه لم يضف أي جديد على أي مستوى، إنما استعاد الصياغة بلغة عالية، ولو قارنت، فسأكون من جهة صلاح جاهين لا شوقي».
واستكمل: «من اليسار، فإن محمد مهدي الجواهري المسمى شاعر العرب الأكبر، لو ناقشنا لغته الشعرية، لرأينا أن الجواهري استعاد البلاغة العربية القديمة، بلاغة المديح والهجاء، وكساها شكلاً يسارياً، وحين المقارنة بينه وبين الشاعر مظفر النواب، سأكون من جهة النواب».
بالمناسبة فإن واحدة من المعارك الأدبية القديمة كانت بسبب كلام كهذا، حين قال العقاد في احتفال أقيم لمبايعة أحمد شوقي أميرا للشعراء بدار الأوبرا المصرية عام 1927 حضره سعد زغلول: «إن أمة تحتفل بشوقي لا تعرف معنى الكرامة»، مشيراً (كذلك) إلى أن أحمد شوقي لم يقدم جديدا، بل سار على نهج الشعراء القدامى، لكنها هنا مع أدونيس لا تحدث اثراً.
لماذا مرّ كلام أدونيس مرور الكرام..؟ لماذا خفتت السجالات الثقافية؟، هل لأن الجمهور لم يعّد مهتماً بتلك النقاشات والقضايا، ولا بنقاشات مثل (البنيوية والتفكيكية)، ولا (الأصالة والحداثة)، وليس ثمة حماس للدفاع عن احمد شوقي او محمد مهدي الجواهري، أم لأن تلك القضايا، وأمثالها الكثير عدمت الأهتمام من الصحافة الثقافية التي كانت المنصة الأكثر فاعلية في زمن المدّ الثقافي والحراك الفكري؟. قد يختلف الموضوع، لا أحدّ مهتماً اليوم باستعادة سجالات الماضي، ولكل زمان نقاشاته وسجالاته ذات العمق الثقافي، التي تكشف - رغم ضراوتها - عن وعيّ وعن حراك وعن قوة وتمدد الحركة الثقافية والفكرية وتعمقها في المجتمع.
مرور كلام ادونيس مرور الكرام دون أن يستّل أحدهم «سفوداً» كان مؤشراً على برودة المشهد الثقافي.
TT
أدونيس الذي نجا من «السَّفُود»!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة