كثيرٌ من السعوديين استقبلوا زيارة أدونيس للسعودية، وإحياءه ثلاث أمسيات حاشدة في احتفالية باذخة نُظِّمت له، استقبلوها بالسؤال: ما الذي تغيّر حتى أصبح أدونيس بيننا؟ هل تغيّر أدونيس، أم تغيرنا نحنُ؟
الحقيقة، الجميع تغيّر... أدونيس الذي استعلى كثيراً على عرب الجزيرة، صار يتنقل في مرابعهم، لا بأس... ونحنُ أيضاً تغيرنا، ومن المهم أن نعي أننا في سيرورة وتحول...
وجود أدونيس بما تحمله أفكاره من صخب وإثارة وأهمية أيضاً بيننا، هو جزء من هذا التحول، التحول الباعث على الاطمئنان بأن أدوات الحجب والمنع تراجعت، وحراس القلعة الذين يفتشون على الأفكار، ويمنعون الاختلاف، هؤلاء غربت شمسهم، والأهم أن أحداً لم يعد يخاف من وجود الآراء المختلفة.
ربما هناك مبالغة فيما قاله الدكتور سعيد السريحي، بأن «أدونيس الذي كان حِجراً محجوراً قبيل سنوات»، و«أدونيس الذي كنا نغلق نوافذنا ونطفئ مصابيحنا إذا أردنا أن نخلو إليه فلا يرانا أحد»، لأن أدونيس كان حاضراً بفكره وكتبه في تأسيس الوعي الحداثي، وفي سجالات الحداثة وخصومها في الثمانينات، وبخاصة كتابه المهم «الثابت والمتحول»، الصادر عام 1973، وهو أحد أهم أعماله الفكرية.
لكنّ السريحي كان صائباً حين قال إن حضور أدونيس بيننا في الرياض يمثل «مسافة لا يختصرها إلا ما تشهده المملكة من انفتاح على العالم وتقبل للاختلاف واعتراف بحرية الفكر».
هناك من انشغل في التفاصيل: ماذا يضيف أدونيس ذو التسعين عاماً؟ ما الجديد الذي جاء به ولم تسبقه إلينا كتبه ومقالاته وتصريحاته؟ آخرون انشغلوا بجردة حساب مع رائد الحداثة الشعرية... فتَّشوا عن أصله ودينه ومواقفه السياسية، وتصريحاته الصاخبة... هؤلاء غفلوا عن القيمة الرمزية لوجود أدونيس في السعودية تحديداً، في الرياض، وفي الطائف وجدة... هذا شيء كبير جداً يحدث في بلادنا، لا بد أن نعيه ونحتفي به، حتى لو كنّا مختلفين مع أدونيس...
وجود أدونيس يمثل عنواناً للثقة بالذات، قبل أن يمثل انتصاراً أو هزيمة لفكر أو فئة. هو عنوان لأننا نتجه نحو سماوات مفتوحة وفضاء لا يعرف الرقابة على الفكر، ورغبة صارمة في الحوار مع المختلف لا قمعه ولا حجبه ولا منع الوصول إليه. نعم، قاطرة التحول التدريجي تتحرك، وهي تسير وتنتج وتزرع الأمل وتُشيع التفاؤل، ومعها يرتفع طموح الناس.
شيء آخر تبدَّل في وعينا العام، وهو إمكانية تفكيك المواقف وفصلها عن إطلاق الأحكام العامة، والمواقف الآيديولوجية. نختلف مع أدونيس لكننا لا نختلف على مركزيته في صنع الحداثة، وعلى شجاعته الفكرية، وفي نقد التراث العربي، دراسته عن «الثابت والمتحول» هي أهم ما كُتب في هذا المجال منذ كتاب طه حسين عن الشعر الجاهلي في عشرينات القرن الماضي، في هذه الرسالة التي حملت رؤية نقدية للتراث العربي الأدبي والشعري والديني، فصّل فيها أدونيس أوجه التقليد والتجديد والإبداع والابتداع. أدونيس قال في محاضرته في الرياض بعنوان «الشعر والحياة»، إنَّ الإبداع العربي لن يتحقق إلا بقطيعة كاملة مع الاستعادة والاستعارة، معتبراً أنَّ الشعر والفن يعدّان مفتاحين لآفاق جديدة في العلاقات بين الكلمات والأشياء، وبين الإنسان والعالم، تعميقاً لهذه القطيعة، وتمهيداً للسير نحو عصر إبداعي عربي آخر.
في الرياض حكى أدونيس عن زيارته الأولى للسعودية، قائلاً: «في هذا الأفق أقول إن علاقتي بهذه الأرض الطيبة، الجزيرة العربية، لا تحدّها اللغة أو الشعر، إنما هي علاقة حياتية في مستوى الكينونة، وهي مليئة إلى جانب أخواتها في المنطقة بأسرار حضارية كبرى إنسانية ومعرفية، لم تُكتشف بعد، و(منطقة العلا) في القلب من هذه القارة العمودية».
8:2 دقيقه
TT
أدونيس في السعودية: الثابت والمتحول!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة