الثقافة كالكائن الحي، لا ينضج مهذَّباً على طول الخط، وإن فعل كانت قصة مملة، مكانها لوائح الشرف في بيوت الدواجن لا كتب الأدب. ينضج هذا الكائن بالتجربة، بالحذر، بالخطأ، بالخطر، بالصراع من أجل البقاء، والصراع من أجل الجنس. البيوت التي لا تسمح لأبنائها بالمسير إلا في ممرات تحوطها جدران قلما تنتج مبدعين، ولو فعلت فمن أبنائها المتمردين عليها.
الموسيقى المصرية استفادت من مسارات «الأندرغراوند»، بما منحته من قدرة على الانفلات، وما منحه «يوتيوب» من منافذَ لم يعد معها عالم «الأندرغراوند» أنفاقاً مسدودة. من هذا الطريق عرفنا أسماء مبدعة. عن نفسي، مغرم بمروان موسى، وشاهين. تبهرني كلمات أغانيهما ذات التركيبات البديعة. وجود هؤلاء لم ينتقص من مبدعين متميزين وجدوا طريقهم في «المينستريم» مثل عزيز الشافعي. هكذا الفن، لا ينتقص مبدع من آخر، ولا يحرمه فرصته، بل يتوسع كالكون، وينمو كاقتصاد السوق. فكرة على أكتاف فكرة، وفكرة تكاتف فكرة، بلا نهاية.
لكن الموسيقى الغنائية محظوظة. أولاً لأنها منتج مسلٍّ. يتلقاه الإنسان من دون جهد. وثانياً لأنها مجانية. وثالثاً لأن «يوتيوب» لا يفرض رقابة مقيدة. أقصى ما يطلبه منك أن تصنف عملك عمرياً، وألا يكون فيه تحريض على أذى الغير.
تأتي الدراما تالياً في حظوظ الاستفادة من الوضع الحالي. تَوسعُ منافذ العرض، مثل «ووتش إت» و«نتفليكس»، أتاح فرصة لزيادة الطلب، وسمح ببعض التخفف في الرقابة.
لكن ماذا عن الأدب المكتوب! ظني أنه في وضع صعب. ليس بسبب ندرة المواهب، فالفترة الحالية تشهد توسعاً في رقعة الإنتاج. وهذا ملمح لا يأتي منه إلا بروز مواهب مميزة. إن كان الحال هكذا، لماذا أرى الوضع صعباً إذن بالمقارنة مع الموسيقى الغنائية والدراما؟ للأسباب المعكوسة.
أولاً، الأدب المكتوب ليس تسلية خاملة. لا يمكن أن تقرأ وأنت تغسل الأطباق وتنظف الشقة، حتى لو استمعت إلى الكتاب تحتاج إلى إنصات وتركيز. وثانياً، الأدب المكتوب ليس مجانياً. الكتاب يستهلك منك ثمن خمسة أكواب قهوة، وأضعاف ذلك وقتاً. هذان عاملان دائمان على مدى تاريخ الأدب، صارا أصعب الآن بسبب المنافسة مع توفر وسائل تسلية ومتعة أخرى. حتى المترو في أوروبا قل فيه عدد القارئين لصالح عدد لاعبي الجيمز، ومتابعي الدراما، على الموبايل.
ولأن «الضرب في الميت حرام»، فلا أفهم العامل الثالث المعوق للأدب المكتوب، ولا أجد له تبريراً منطقياً. وقد ظننت أننا أدركنا قيمة الثقافة التي تطرح رؤية للعالم أوسع أفقاً، بدلاً من العالم الضيق الذي عشنا فيه في العقود الماضية.
أخبرني مسؤولون في دائرة نشر أن منافذ التوزيع الكبرى صارت حالياً أكثر تزمتاً في رقابتها على الكتب. وأنها لا تكتفي بحجب الكتاب الذي يثير حفيظتها، بل تعمد إلى إلحاق دار نشره بقائمة سوداء. ربما يكون في هذا مبالغة، لكنه - بالتأكيد - لا يأتي من فراغ. نرى سلوكاً مشابهاً في دوائر أخرى. دوائر النقد الأدبي الواقعة تحت هيمنة اليسار تقمع الكتاب المختلفين معها سياسياً، وتطمس ذكرهم، منذ عهود. وتصنع من أنصاف موهوبين نجوماً ما داموا قيموا أدبهم بأنه ملتزم ونضالي. وتوسع دائرة الغضب لتشمل من يخرج عن أحكامها ويمدح كاتباً مغضوباً عليه. وقد زاد الأمر سوءاً، واتخذت الخصومة بعداً أكثر راديكالية، بتحالفها السياسي مع الجماعات الدينية. وتغلغل الإسلامجية في أوساطها. وتحكمهم مالياً في منافذ النشر الصحافي. ثم ازداد سوءاً بتحول مركز الثقل في التسويق الأدبي إلى السوشيال ميديا، ومجموعات القراءة، وهي ملعب لا يقوى فيه الأفراد على مناهضة قوة التنظيمات ولجانها وجمهورها المكرس. فصار بيدهم فرض الذوق، وتصعيد النجوم. وبدلاً من اغتيال الكتاب جسدياً في التسعينات بسبب أفكارهم، تُغتال حالياً الأفكار نفسها خنقاً.
النتيجة صارت ضآلة المنتج الخارج عن السياق. وفي ميكانيكا الحركة الأدبية المنتج الخارج عن السياق ضروري، ليس لأن العمل في حد ذاته عظيم، بل لأنه مثل الكاتاليست (العامل الحفاز) في الكيمياء. ينغز القراء وينغز المبدعين. والنتيجة أن صار لدينا أدب يرتدي زياً مدرسياً، جيد لكنه مهذب زيادة على اللازم، خائف من الوصمة. وإن أراد أن يتمرد تسيَّس بشكل مباشر فتحول إلى منشور. لأنه لن يستطيع أن يقترب من أي تابوهات أخرى.
من الصعب أن أجادل شخصاً يمنع كتاباً يراه مشيناً. ذلك لأنني لن أستطيع الادعاء أن كتاباً أدبياً مفرداً مهما كان عبقرياً قادر على أن يغير العالم، أو مستحق للمخاطرة من أجله ببعض الغضب لدى المستهلكين، أو أن تقترف من أجله جريمة السماحة. إنما ما يستحق هذا هو الحركة الأدبية، لأننا لا نعرف أين تختبئ حبات اللؤلؤ، ولا فرصة لدينا إلا بتوسيع قاعدة الاحتمالات. الحركة الأدبية التي تنتج فناً عظيماً لآرثر ميللر هي نفسها التي تنتج فناً عظيماً لهنري ميللر، الأول يركز على الفرد كعضو في جسد المجتمع، والثاني على الفرد كجسد.
وهنا لدي سؤال. هل يصدق عاقل أن من يبحث عن الإباحية في عصرنا يفتش عنها في الكتب؟ لا يمكن. كل شيء متاح في الإنترنت، بلا مقابل، وبلا احتياج إلى قراءة مئات الصفحات من الحروف السوداء المنسوخة. لا يمكن أن نتعامل مع الحركة الأدبية كأنها مجلات التسعينات المصورة. الكتب تواجه ما يكفي من معوقات، والكُتَّاب ينفقون من أعمارهم الكثير في مهنة غير مربحة، ولا يمكن أن يفعلوا ذلك لكي ينافسوا مواقع الإباحية على الإنترنت. فلا داعي إلى هذا التوتر. الحركة الأدبية في أي ثقافة لا تقدر بعدد معارضها، ولا جوائزها، بل بتنوع أفكارها. وأرفف المعارض الخالية من أفكار متمردةٍ مزعجةٌ للغاية. جربنا السينما النظيفة ورأينا كيف أنتجت أسوأ حقب الدراما.
7:52 دقيقه
TT
من السينما النظيفة إلى الأدب النظيف
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة