صمتت المدرجات، وذهب الصخب الجميل، وتوقف الجدل، وبدأت كرة القدم رحلة عمرها أربع سنوات نحو أمريكا الشمالية وكندا والمكسيك، بعد أن استقرت لمدة 29 يوماً في دولة قطر وصنعت حلماً وتاريخاً جديداً، للشرق الأوسط ومنطقة الخليج، فقد اجتمع العالم في الدوحة، وامتزجت ثقافات وحضارات ولغات وجنسيات، وتلاشت الأسوار والمسافات. ومن ناحية التنظيم نجحت دولة قطر بامتياز، ومن ناحية المستوى قدمت المنتخبات المشارِكة أفضل المباريات، وأكثر المفاجآت. وتحولت منتخبات الحيتان إلى أسماك سردين. وكان منتخب المغرب قصة المونديال الجميلة، كأول فريق عربي وأفريقي يلعب في قبل النهائي، وأفضل فريق في البطولة من ناحية التنظيم. ووصف «مونديال قطر» بأنه الأجمل على الإطلاق، حتى إسدال الستار على مسرح لوسيل في أفضل مباراة نهائية لـ«كأس العالم» على مدى التاريخ.
فاز ميسى باللقب الذي استعصى عليه مرات، وفازت الأرجنتين بـ«كأس العالم» للمرة الثالثة، بعد مباراة درامية. تفوقت الأرجنتين لمدة 80 دقيقة، ثم عادت فرنسا بقدم نجمها مبابي بسيناريو مذهل، في 97 ثانية. وأخطأ إسكالوني في تبديل دي ماريا مبكراً، ونجح ديشامب في إجراء تغييرات أعادت الحيوية للفريق، ولم يكن تقليدياً في تغييراته التي بدأها قبيل نهاية الشوط الأول دون انتظار للشوط الثاني الذي يسمى بالخطأ «شوط المدربين»، وهي نكتة تدعونا للسؤال أين كانوا فى الشوط الأول؟!
بعد الهزيمة أمام منتخب السعودية لعبت الأرجنتين 6 مباريات نهائية. هكذا كانت كل مباراة بالنسبة للفريق بعد درس «الأخضر». وعانت فرقة التانجو من الدراما، عانت مثلاً أمام أستراليا وهولندا، ثم أمام فرنسا. وقبل المباراة النهائية ربما توقع البعض انتصار الأرجنتين، وتوقع البعض الآخر فوز فرنسا، لكن أحداً فى الكوكب لم يتوقع سيناريو المباراة. وصحيح أن في تاريخ كأس العالم مباريات نهائية رائعة، شهدت صوراً مختلفة من الصراع والندية، إلا أن تلك المباراة النهائية بين الأرجنتين وفرنسا عادت ورسمت لنا سحر كرة القدم وسرّها.
هذه اللعبة تأسرك، تذهب وراءها أينما ذهبت، تحب أن تشاهدها أينما كانت، وقد ترفع حرارتك وضغطك. تعِدنا ولا تفي بوعدها، وتواعدنا ولا تأتي في موعدها، تبكي الرجال والنساء وتضحكهم.
إنها من المؤكد جميلة، ومثيرة، وممتعة، مستديرة، وقاسية، ومتقلبة، وغدارة تجلس تتابعها وأنفاسك مكبوتة ومكتومة، وأنت تشك فيها، وحين تخيب ظنك فإنك تشكو منها، وتدير لها ظهرك أحياناً، لكنك لا تلفظها للأبد. إن كرة القدم لعبة غريبة ومريبة، لا توجد فيها قاعدة ثابتة أو مطلقة، يمكن أن ينتصر فيها فرد على الجماعة، ولكن يبقى التعاون بين المجموع هو الطريق إلى الإنتصار.
نهايات مباريات كرة القدم قد تفجر داخلك ينابيع السعادة، وقد تغمرك بالأحزان... لكنك دائماً تعود إليها، وحين تتوجه إليها متوقعاً الانتصار تنكسر، وحين تستسلم لها متوقعاً الانكسار تنتصر، وهى على مدار العمر والسنين تصغر وتصير أكثر شباباً وأكثر جمالاً وأكثر سرعة، فكانت في زمن بعيد بطيئة وساذجة ووديعة، ثم أصبحت سريعة وشرسة. وكرة القدم علّمتنا الحكمة والفلسفة والكفاح، وعدم الاستسلام، وعدم الندم، وعلّمتنا كيف نحب ونحن نكره، وعلمتنا أن نحب ما كنا نكره، وألا نكره أبداً ما نحبه فيها. علّمتنا كيف نضحك ونحن نبكي، وعلّمتنا أن ما نبكيه اليوم سوف نضحك عليه غداً، وأن ساحتها هى الحياة، يوم لك، ويوم عليك. يوم انتصار، ويوم انكسار.
هكذا كانت المباراة النهائية لكأس العالم بين الأرجنتين وفرنسا، وهكذا هى كرة القدم... أليس كذلك؟!
8:7 دقيقه
TT
اليوم التالي... بعد أفضل نهائي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة