جولة جديدة من العمليات البرية في شمال سوريا، ربما يستعد الجيش التركي حالياً لشنها، إذ شوهد وزير الدفاع وأركان حربه في صور فوتوغرافية بملابسهم العسكرية الكاملة، إما في غرفة العمليات في أنقرة، وإما على طول الحدود السورية.
وتخشى تركيا من إنشاء «وحدات حماية الشعب» الكردية السورية دويلة في سوريا، على مقربة من حدودها؛ حيث يمكنها شن هجمات إرهابية، وإثارة جميع أنواع المشكلات من هناك. وترغب تركيا في اختفاء «وحدات حماية الشعب» بشكل كامل، أو ابتعادها قدر الإمكان عن حدودها.
وكانت آخر العمليات البرية التركية في سوريا عام 2019، ونفذت القوات التركية العملية لتأمين المنطقة بين بلدتي تل أبيض ورأس العين (في العملية التي حملت اسم «نبع السلام»).
وعارض كل من الولايات المتحدة وروسيا تلك العملية، ونتيجة لجهود دبلوماسية مكثفة، أبرمت تركيا اتفاقيات منفصلة مع البلدين، وأعلنت فيها عن كل الأهداف التي تحققت، ومن ثم انتهت العملية.
وبالنظر لهذه الاتفاقيات، ربما نستنتج أنها كانت في مصلحة تركيا. وأشار البيان المشترك مع الولايات المتحدة، والمذكرة مع روسيا، إلى إنشاء منطقة آمنة كما طلبت تركيا (المنطقة التي تريدها تركيا على طول حدودها مع سوريا البالغ طولها 911 كيلومتراً، يقارب عمقها 30 كيلومتراً من خط الحدود الذي يتزامن تقريباً مع طريق «M4» السريع). وقد تضمنت الاتفاقيات إشارات إلى نزع أسلحة «وحدات حماية الشعب»، والانسحاب من جميع المواقع داخل هذه المنطقة. وكان من المقرر إخراج جميع عناصر «وحدات حماية الشعب» وأسلحتهم من بلدتي منبج وتل رفعت.
ونُفِّذت اتفاقيات عام 2019 بصفة جزئية فقط، ولا تزال «وحدات حماية الشعب» حاضرة بأسلحتها إلى درجة كبيرة في منبج وتل رفعت وتل تمر وعين عيسى.
ويتحدث الرئيس إردوغان، منذ مايو (أيار) الماضي، عن عملية عسكرية جديدة في شمال سوريا، لاستكمال العمل الذي لم ينتهِ بعد.
وقد منح الهجوم الإرهابي الذي ضرب إسطنبول في 13 نوفمبر (تشرين الثاني) الجاري، تركيا، ذريعة جيدة لضرب «وحدات حماية الشعب» وإبعادها. وشرعت تركيا، بعد 5 أيام من الهجوم، في استهداف مواقع تابعة لـ«وحدات حماية الشعب»/ حزب «العمال الكردستاني»، في شمال سوريا، وشمال العراق، بالطائرات الحربية، والمُسيَّرات، والصواريخ، والمدفعية.
بقي أن ننتظر لنرى ما إذا كانت هذه «عملية عقابية من بُعد» من دون تدخل بري، أو هي المرحلة الأولى من عملية أوسع نطاقاً، تتمثل مرحلتها التالية في زحف الجيش التركي إلى سوريا، بُغية الاستيلاء على المناطق الخاضعة لسيطرة «وحدات حماية الشعب».
ويبدو الرئيس إردوغان حريصاً على المضي قدماً في خططه للدخول إلى سوريا. لكن ما سيحدث في الأيام المقبلة ومداه، سيتوقف أيضاً على البيئة المحيطة والظروف الدولية.
وتتسم سياسة الولايات المتحدة تجاه سوريا بالغموض وصعوبة الفهم. ويتلخص السياق الأميركي هنا في أن «أولويتنا في سوريا هي تنظيم (داعش)». وتكرر الولايات المتحدة هذا السياق كما لو كانت هذه القضية منفردة بذاتها ومنفصلة عما سواها.
وقد أبرمت الولايات المتحدة شراكة مع «وحدات حماية الشعب» في سوريا، ودرَّبت هذه الوحدات وزوَّدتها بالمعدات العسكرية، بما في ذلك الأسلحة المتطورة المضادة للدبابات. وقد نمَت «وحدات حماية الشعب» لتصير كياناً يُدير نحو 25 في المائة أو أكثر من سوريا، ويأتي المصدر الرئيسي لأموالها من حقول النفط في المناطق الخاضعة لسيطرتها.
وليست الولايات المتحدة -مجدداً- على استعداد لقبول فكرة العملية البرية التركية، إذ تخشى من تشتيت تركيز «وحدات حماية الشعب» وعرقلة القتال ضد تنظيم «داعش»، كما أنها ترصد التهديد الذي يتعرض له جنودها في المنطقة.
لكن هناك أيضاً حرباً مستمرة في أوكرانيا، واحتجاجات عارمة في إيران، مع هشاشة إقليم القوقاز، والتهديد الدائم المتمثل في التطرف، وتركيا في خضم كل ذلك. فالعلاقات بين تركيا والولايات المتحدة مشوبة بالتوتر، ولا ينبغي للولايات المتحدة أن تحدوها الرغبة في زيادة العزلة التركية.
أما بالنسبة إلى اللاعبين الرئيسيين الآخرين في سوريا، فقد صارت تركيا مكوناً مهماً في المجهود الحربي الروسي في أوكرانيا، وفي سياستها الخارجية في عدد من النواحي، ولن ترغب روسيا في مواجهة مشكلات لا ضرورة لها مع تركيا في هذه الظروف.
كما أن إيران منشغلة للغاية بالاضطرابات الاجتماعية الداخلية، وتود أن تبقي جارتها الغربية في وضع متأزم، يمنعها من المضي قدماً.
لكن، على الرغم من هذه الانحرافات السياسية الخطيرة، وحتى مع انخفاض مستوى الرؤية وربما الثقل، لا تزال روسيا وإيران حاضرتين للغاية في الواقع السوري، ولا تزالان قادرتين على التأثير في الطريقة التي تتطور بها الأمور.
كانت تركيا حتى وقت قريب معنية بمن يُسيطر على سوريا، وكان موقفها مناوئاً تماماً لبشار الأسد. أما الآن، فيبدو أن أكثر ما يَهُم تركيا هو وحدة الأراضي السورية، وليس مَن يُسيطر عليها.
وصار الرئيس إردوغان أكثر صراحة في رغبته في إعادة العلاقات مع الأسد. فقد صرح قبل بضعة أيام فقط قائلاً: «إذا تحسنت العلاقات مع مصر، فربما يحدث الشيء نفسه مع سوريا. فليس هناك في السياسة ما نستطيع أن نطلق عليه وصف عدم مخاطبة بعضنا بعضاً».
وكان إردوغان يشير بذلك إلى مصافحته الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، يوم افتتاح بطولة العالم لكرة القدم، في الدوحة، الأسبوع الماضي. وقد عارض الرئيس إردوغان الرئيس السيسي بشدة، ووقف ضده منذ توليه السلطة عام 2013. والآن، على الرغم من أن ذلك قد يبدو غريباً للغاية، فقد ترك كل هذه الأمور وراءه.
ويبدو الرئيس إردوغان متحمساً للمضي قدماً في صنع السلام مع الأسد، إذ تُحفز الانتخابات المقبلة في تركيا، خلال النصف الأول من العام المقبل، الحكومة، على السعي للتوصل إلى اتفاق مع الأسد. وإذا تبينت إمكانية ذلك، فسوف تكون الحكومة التركية في موقف يسمح لها بالمطالبة بنجاح دبلوماسي كبير آخر، كما أنها سوف تزعم أنها مهدت الطريق لعودة اللاجئين السوريين في تركيا، والذين تحولوا إلى قضية سياسية داخلية كبرى.
من جهة أخرى، يبدو أن الأسد أقل حماسة للتوصل إلى اتفاق؛ لكن إذا توفرت المحفزات المناسبة، فلا أعتقد أنه قد يرفض تحييد ضغوط إردوغان الذي يعتبره أحد الأسباب الرئيسية وراء متاعبه.
على صعيد آخر، قد يعتبر الأسد العمليات التركية في شمال سوريا انتهاكاً لسلامة الأراضي السورية؛ لكن لا ينبغي له أن يكون غير مسرور من قتال تركيا ضد «وحدات حماية الشعب». فوفق معاييره الخاصة، فإن أي شكل من أشكال الأضرار السياسية والعسكرية التي قد تلحق بتركيا سوف يكون موضع ترحيب شديد من جانبه، وسيكتنفه سرور بالغ لأي ضرر يلحق بـ«وحدات حماية الشعب» التي لديها طموحات «استيطانية»، تتمثل في اقتطاع كيان خاص بها من سوريا.
وحسب ما ورد من أنباء، فقد قُتل عدد من الجنود السوريين جراء القصف التركي الأخير. والأسد لن يجافيه النوم بسبب مثل هذه الحادثة التي لن تعيق آفاق التقارب المحتمل بينه وبين إردوغان. كما أن هناك عدداً من القضايا المهمة الأخرى التي تتعلق بالمعارضة والجماعات المسلحة.
8:2 دقيقه
TT
تركيا أمام احتمالات عملية عسكرية جديدة في سوريا وتقارب مع الأسد
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة