رامي الريس
كاتب وصحافي وأستاذ جامعي من لبنان، وباحث ومترجم، يكتب في القضايا العربية والدولية، يحمل شهادة ماجستير في العلوم السياسية من الجامعة الأميركية في بيروت، وله مشاركات في العشرات من المؤتمرات وورش العمل في لبنان والخارج.
TT

أوروبا أمام منعطف حاد: صعود اليمين المتطرف

ليس ثمّة فروقات كبيرة في قراءة نتائج الانتخابات الإسرائيليّة الأخيرة التي أفضت إلى عودة رئيس الوزراء السابق بنيامين نتنياهو إلى السلطة بعد انقطاع «قسري» عنها، وها هو يُسجّل أطول مدة أمضاها رئيس حكومة في موقعه السياسي. والسبب الرئيسي لغياب الفروقات الجوهريّة أن إسرائيل دائماً تختار في انتخاباتها بين الأكثر تطرفاً والأقل تطرفاً وليس بين الاعتدال والتطرف.
ليس هناك في الواقع خيارات «عقلانيّة» كثيرة أمام الناخب الإسرائيلي ليختار من بينها. حتى في الحقبة التي كانت الصراعات السياسيّة على أوجها بين حزبي «الليكود» و«العمل»، كانت الأجندة الانتخابيّة للفريقين تتراوح بين القضايا المحليّة. وثمّة انطباع خاطئ، إنما شائع في الكثير من الأوساط العربيّة، أن معسكر «العمل» هو أكثر تمسكاً بعمليّة السلام مع العرب والفلسطينيين، بينما دلت الوقائع التاريخيّة أن الخلاف مع المعسكر لا يتجاوز المقاربات اللفظيّة أو أنماط الإخراج السياسي والإعلامي؛ إلا أنهما في العمق لا يختلفان في القضايا الجوهريّة المتعلقة بالصراع العربي - الإسرائيلي حتى إن معظم الحروب قامت بها حكومات «العمل».
ولكن ما ينطبق على إسرائيل لا ينطبق بالمقاربة ذاتها على أوروبا التي شهدت في الآونة الأخيرة صعوداً لافتاً لليمين المتطرف، خصوصاً في إيطاليا ودول أخرى. ولم يعد خافياً على أحد أن ثمّة أزمة سياسيّة وهوياتيّة عميقة تعاني منها أوروبا تفاقمت بطبيعة الحال في حقبة اندلاع السجالات حول الخروج البريطاني من الاتحاد الأوروبي (بريكست) مع ما تشكله لندن من ثقل سياسي واقتصادي كبير على مختلف المستويات.
لا يمكن القول إن مسألة «بريكست» كانت الخطوة التراجعيّة الوحيدة التي أدّت إلى اختلالات عميقة في المشروع الأوروبي ووضعت «مسلّمة» وحدته وديمومته على المحك، ولو أنها من العوامل الأساسيّة لذلك، إنما يمكن الاستخلاص بأحقيّة أن المسار التراجعي كانت قد بدأت تلوح تباشيره إبّان الأزمة الاقتصاديّة العالميّة سنة 2008 وما تبعها من إجراءات اعتمدها الاتحاد الأوروبي والحكومات الوطنيّة على حد سواء وصبّت بغالبيتها في المسار النيوليبرالي بهدف الحد من العجز والتضخم والتباطؤ، مع ما رافق ذلك من إجراءات تقشفيّة ما أدّى عمليّاً إلى تعميق الهوّة بين نخب ثريّة ومقتدرة وغالبيّة شعبيّة تراجعت قدراتها الماليّة ومكانتها الاجتماعيّة بشكل ملحوظ.
لقد أتاح هذا المناخ الاقتصادي الانحداري، بالتوازي مع تراجع اليسار التقليدي عموماً وعدم قدرة العديد من مكوناته السياسيّة والحزبيّة على مواكبة الحداثة ومخاطبة الأجيال الشابة بلغتها العصريّة عطفاً على انقضاء عصر الآيديولوجيّات والعقائد السياسيّة الشاملة، أتاح مساحات رحبة لصعود اليمين المتطرف وملء الفراغ الذي تولّد بفعل حالات الإرباك العام التي شهدتها أوروبا جرّاء العديد من التطورات، وتوّجت في الآونة الأخيرة بالحرب المستعرة في أوكرانيا مع ما يعنيه ذلك من تحديات سياسيّة ودفاعيّة وأمنيّة كبيرة للقارة برُمّتها وليس فقط للدول المحاذية لروسيا.
كما لا يمكن فصل موجة الصعود اليميني عن الضغط السياسي والاقتصادي والإعلامي المنهجي والمتواصل الذي تمارسه الشركات الكبرى العابرة للحدود التي لها تأثيرها النوعي وكلمتها الفاعلة في المسارات الاقتصاديّة الأوروبيّة، والدوليّة أيضاً، وهي التي لا تتوانى بشكل دائم عن الدفع في اتجاه الحد من الوظائف الاجتماعيّة للحكومات وتقليص مجالات تدخلها إلى حدودها الدنيا بهدف الحفاظ على مكتسباتها الماليّة والتجاريّة والربحيّة بلا انقطاع.
ويتيح هذا السلوك تهيئة الأرضيّة الملائمة للمجموعات المتطرفة للتغلغل في صفوف الطبقات الشعبيّة المسحوقة واستقطابها وجذبها في إطار سعيها لتأطير الجهود لمواجهة «الطبقة الحاكمة» التي لا تخلو سلوكيات بعض مكوناتها من الفساد وقلة الإنتاج ما يعزّز من قدرات تلك المجموعات على تقديم «الأدلة» التي تثبت منطقها وسياساتها التي لا تخلو من بث خطابات الحقد والكراهية والعنصريّة.
وتسعى تلك المجموعات للتركيز على فكرة «التفوّق» القومي وتمتلك نظرة معادية للتيارات الفكريّة التي قادت النهضة الأوروبيّة خصوصاً والغربيّة عموماً، بالترافق مع «فوبيا» من الهجرة والمهاجرين تصل إلى حدود العنصريّة المقيتة، علاوة على الشعارات الشعبويّة المناهضة للمؤسسات السياسيّة التقليديّة وهيكليّات الحكم الديمقراطي وأصوله و«طقوسه» التي قلّما تكترث لها أو تراعيها في سلوكيّاتها.
إزاء كل ما تقدّم، بات واضحاً أن جوهر الصراع السياسي والاجتماعي آخذ في التبدل، وهو ما سيترك تداعيات على فكرة العمل المشترك بين الدول وقدرتها على مواصلة سياسات الانفتاح في مقابل الانغلاق والتزمت.
ختاماً، الأكيد أن سقوط الفكرة الأوروبيّة، إذا ما حدث، سيعيد تشكيل العلاقات الدوليّة وفق منطلقات جديدة ومغايرة.