فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

الحداثة... المصطلح الذي أسأنا استخدامه

لعل مصطلح الحداثة هو الأكثر شيوعاً في كتاباتنا وحتى أحاديثنا، لكن هناك لبساً كبيراً مستمراً منذ زمن طويل في استخدامنا لهذا المصطلح؛ إذ إننا نخلط بين الحداثة (Modernity) بمعناها الشامل وبين الحداثة الأدبية والجمالية (Modernism)، وهما مختلفتان تماماً، وكذلك اعتدنا أن نعتبر كل جديد حديثاً مقابل القديم، وكل حاضر أو معاصر
(Contemporary) حديثاً. وبهذا الفهم، فإننا نحصر الحداثة في إطار زمني أو شكل فني أوأسلوبي، فنسمّي كل ما يُكتب من كلمات نثرية متناثرة لا يربطها شيء، «شعراً حديثاً»، حتى لو كان يتضمن مضامين بالية، متخلفة، ونعتبر القصيدة العمودية، وحتى قصيدة التفعيلة، كما يجري في هذه الأيام، شعراً تقليدياً تجاوزه الزمن، ، حتى لو كانتا تحتويان على آخر المضامين العصرية.
الحداثة بمفهومها الصحيح لا يحددها زمن معين، ولا شكل محدد؛ فقد تكون بعض قصائد المتنبي أو أبو تمام أكثر حداثة من قصائد أي شاعر معاصر لنا، وما زلنا نجد أنفسنا في قصائد من الشعر الجاهلي، أكثر ما نجدها في قصائد شعراء في زمننا هذا.
إننا حين نستخدم مصطلح الحداثة بالمعنى الذي أشرنا إليه، فإننا نفقده دلالته الحقيقية؛ فهو مفهوم كوني، ولا زمني، ويمكن أن يولد في أية فترة تاريخية حين تتوفر الظروف الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والعلمية الملائمة.
في الغرب، حيث ولد مصطلح الحداثة ونقلناه إلى العربية، لا يوجد إشكال في فهمه وتطبيقاته منذ أن استخدمه بودلير للمرة الأولى في القرن التاسع عشر في كتابه «رسام الحياة الحديثة». منذ ذلك الوقت البعيد، ارتسمت في ذهن ووعي حتى المواطن المتوسط حدود فاصلة بين الحداثة: (Modernity)، والحداثة الأدبية والجمالية: (Modernism).
الأولى تعني خلخلة كبرى أو انزياح اجتماعي واقتصادي وثقافي هائل، ينقل كل المجتمع من طور لآخر، ومن مرحلة إلى أخرى، وبشكل أفقي يشمل كل مناحي الحياة، وليس بشكل عمودي محصور في الفئات والطبقات فوق. وقد حصل هذا الانزياح نتيجة الثورة الصناعية في إنجلترا في القرن الثامن عشر، ووصل إلى البلدان الأوروبية لاحقاً؛ فازدهر الاقتصاد والطب والتعليم والمعرفة والعلوم والفنون، وتغيرت نتيجة لذلك حياة الناس. وبهذا المعنى، يمكن القول إننا عرفنا مثل هذه الحداثة في العصر العباسي، أو في معظم مراحله؛ إذ شهد ذلك العصر الذهبي تقدماً كبيراً في مجالات العلوم والطب والفلك والفيزياء والكيمياء والكتابة والترجمة، متوافقاً مع انفتاح كبير على ثقافات الأمم الأخرى. هل نملك حداثة الآن بهذا المعنى؟ إطلاقاً، ولا نعتقد أن هناك أحداً يجادل في ذلك، ولا نظن أننا سنعرف مثل هذه الحداثة في المدى القريب، فلا شيء يوحي بذلك. بينما المصطلح الثانيModernismفهو يعني في التطور الكبير الذي عرفته الآداب والفنون كالرسم والسينما، وخاصة العمارة، بعد الحرب العالمية الثانية.
إذاً، لماذا نُصرّ على استخدام مصطلح «الحداثة» بدل مصطلح «الحداثة الأدبية أو الجمالية»، الذي يحمل معنى أدبياً وفنياً وجمالياً محدداً، وهو الأنسب والأصح والأدق الذي ينطبق على أدبنا وثقافتنا منذ منتصف القرن الماضي، مع التجديد الثوري الذي حصل في الشعر والتشكيل والمسرح والعمارة، فنزيل اللبس ونعيد الاعتبار للمصطلح الذي ظلمناه كثيراً، وبلبلنا به الأذهان، بل أسأنا استخدامه؟