أحمد محمود عجاج
TT

التهديد الروسي النووي وخيارات حلف الناتو

من يستمع للرئيس الأميركي بايدن وهو يحذر الرئيس الروسي بوتين من استخدام السلاح النووي وتهديده بتبِعات كارثية، ومن يسترجع كذلك ما قاله بوتين من أنه سيستخدم كل الوسائل المتاحة لحماية أراضي بلاده، يدرك أننا على أبواب حرب نووية. هذا الاحتمال يستدعي سؤالاً مهماً: هل تردّ أميركا بسلاح نووي إذا استخدم بوتين هذا السلاح؟! وإن ردّت هل يضاعف بوتين رده النووي، وتضاعف أميركا ردها، في سُلم تدريجي يؤدي إلى تدمير الكرة الأرضية؟ هذا الافتراض تجاوز النطاق النظري وأصبح ممكناً في عقل كل من التقى بوتين من الساسة الغربيين، وعلى رأسهم الرئيس بايدن؛ لقناعتهم التامة أنه سيستخدم النووي إذا ما شعر بسقوط نظامه أو تعرضه لهزيمة عسكرية كبرى.
على أرض المعركة تتقهقر قوات الرئيس بوتين في شرق وجنوب أوكرانيا، ولم تلقَ كذلك دعوته للنفير العام العسكري تجاوباً شعبياً، ويتصاعد التشكيك في استراتيجيته، حتى من أقرب مؤيديه في روسيا؛ هذا الواقع السوداوي يفسر قول الرئيس بايدن باحتمال لجوء بوتين «في ضوء انتكاساته العسكرية على الأرض الأوكرانية إلى الخيار النووي»؛ وكان قبل ذلك قد وصف بوتين في بداية الحرب على أوكرانيا بأنه «مجرم»، وقال غاضباً في تصريح له لاحقاً: «بحق السماء، هذا الرجل عليه أن يخرج من السلطة». هذه العبارات تدل بشكل جازم على أن قيادة الرئيس الأميركي تدرك خطورة بوتين (نووياً)، ومع ذلك هي مصممة على متابعة الدعم لأوكرانيا، ولهذا وجب تحذيره مع قيادته بأن عليهم تحمُّل «تبِعات كارثية». لم يفصح بايدن بالطبع عن تلك التبعات؛ لأن ذلك يندرج في إطار «الرد الغامض» لإرباك الخصم وتخويفه، لكن يمكن تصور خياراته، من خلال استعراض ما كانت تفكر فيه الإدارة الأميركية الديمقراطية السابقة، وما يفكر فيه الخبراء في الأمن القومي داخل إدارة الرئيس بايدن؛ ففي زمن إدارة الرئيس أوباما نوقشت خيارات الرد الأميركي على سيناريو متصوَّر تحتل فيه روسيا بلداً من بلدان دول البلطيق، وتستخدم أسلحة نووية تكتيكية. هذا النقاش كشفه المؤلف Fred Kaplan في كتابه الصادر عام 2020 وعنوانه «القنبلة»، وفيه خياران:
أولاً: الرد النووي المباشر على بوتين؛ لأن أي خيار آخر سيُظهر عجز الإدارة الأميركية ويُفقدها ثقة الحلفاء وتنهار مصداقيتها؛ هذا الخيار، بالمقابل، قد يدفع بوتين لمضاعفة الرد. ولتجنب ذلك استقر الرأي على أن تضرب أميركا نووياً دولة بيلاروسيا الحليفة لموسكو.
ثانياً: الرد نووياً خطأ كبير؛ لأنه يُفقد أميركا علوها الأخلاقي، والأفضل الرد بأسلحة تقليدية تدمر القوات الروسية، والعمل على تأليب الرأي العام الدولي ضدها، واتهامها بأنها كسرت المحرَّم (التابو) النووي.
تكمن أهمية الدراسة في أن صاحب الرأي الثاني هو Colin Kahl الذي يشغل حالياً منصب وكيل وزارة في وزارة الدفاع للشؤون السياسية في إدارة الرئيس بايدن؛ ووجوده الآن يرجح اعتماد الإدارة الأميركية رأيه؛ هذا الاحتمال تَعزَّز أكثر بعدما تطابق مع تصريح رئيس المخابرات السابق الجنرال الأميركي ديفيد باتريوس مؤخراً بأن الولايات المتحدة وحلفاءها سيردّون على استخدام بوتين أسلحة نووية تكتيكية «بتدمير كل قوة عسكرية تقليدية روسية موجودة في أوكرانيا، وفي جزيرة القرم وكل سفينة عسكرية في البحر الأسود». ورأى خبراء أيضاً أن حلف الناتو قد يفرض حظر طيران فوق أوكرانيا، وهذا سيضع الروس في موقف صعب جداً؛ لأن استخدامهم ثانية للسلاح النووي سيجعلهم في موقع صعب جداً أمام حلفائهم الصينيين والهنود الذين يؤمنون بنظرية «negative nuclear assurances» بمعنى عدم استخدام الأسلحة النووية ضد أية دولة غير نووية، وكذلك رفض الضربة الاستباقية النووية؛ وأوكرانيا دولة غير نووية، واستهدافها بالنووي ليس مقبولاً لدى الصين أو الهند، ويخالف أيضاً قرار مجلس الأمن الدولي رقم 984 الصادر عام 1995 الذي وافقت عليه روسيا مع الصين وبقية الدول النووية، ويتعارض مع ما اتفقت عليه تلك الدول في يناير (كانون الثاني) 2022 بعدم استخدام السلاح النووي إلا في حالة التهديد الوجودي أو الرد على هجوم نووي. في سيناريو كهذا يجد بوتين نفسه محاصَراً، وبلا مَخرج، وهنا تقع المسؤولية على أعدائه لكي لا يدفعوه إلى خيار الحل الانتحاري، بل يعملوا على إقناعه بأن ثمة حلاً يُرضي الجميع؛ لذا فإنه يتوجب على إدارة الرئيس بايدن، مقابل تحذيراتها القوية له، أن تفتح خط اتصال سري، كما حصل إبان أزمة كوبا النووية مع الرئيس السوفياتي آنذاك خروتشوف، وذلك لإيجاد مَخرج ينقذ بوتين من تبِعة أعماله، وينقذ أوكرانيا من تبِعات نووية كارثية؛ ومما يؤشر على التفاؤل أن بوتين هدد سابقاً بهذا السلاح عندما اجتاحت قواته أراضي أوكرانيا لمنع دول حلف الناتو من توريد أسلحة لأوكرانيا، لكن تلك الدول لم تأبه، ولم ينفذ بوتين تهديده؛ كما أن استخدامه أسلحة تكتيكية نووية لضرب جنوب أوكرانيا، وهو المرجح، سيجعله يحصل على أراض ملوثة إشعاعياً، ويقتل مدنيين يقول إنهم صوّتوا للانضمام لروسيا؛ كما أنه يدرك صعوبة استخدام أسلحة نووية استراتيجية تدمر كييف أو مدناً في غرب أوكرانيا لأن ذلك سيُحدث صدمة كبرى في العالم تنادي بمعاقبته وضربه، وإزالة روسيا؛ هذا الخيار لا يمكن أن يقدم عليه الرئيس بوتين؛ لأنه في النهاية، على عكس ما يصفه كثيرون، سياسي عقلاني، وليس مؤدلجاً لأن تعريف المؤدلج شخص يرى الواقع ضده، ويصرّ على تحديه؛ لقناعته بالنصر، لكن حتى المؤدلج يقبل أحياناً بالتراجع، وكلنا نتذكر مقولة الخميني المؤدلج دينياً بأن قبوله قرار وقف الحرب مع العراق كان بمثابة تجرعه السم.
ليس أمام بوتين إلا خياران: أن يتجرع السم وينقذ نظامه وروسيا، أو يمضي قدماً ويُجرّع العالم السم النووي.
ليكن الله في عوننا إن كان خياره الثاني.