لأن أرض العراق مستباحة منذ 9 أبريل (نيسان) 2003 وحتى اليوم، فإن طهران لا تشعر بأي حرج حين تقصف أي مدينة عراقية سواء السليمانية أو أربيل شمال العراق، أو حتى بغداد العاصمة إذا شاء «فيلق القدس» الإرهابي. وكانت الحجة في السابق أن القصف الإيراني يستهدف مقرات الموساد الإسرائيلي في إقليم كردستان العراق. وحين نفى الإقليم وجود أي مركز للموساد بلع «الحرس الثوري» الإيراني لسانه وصمت.
ولم يتردد أي محلل سياسي في التأكيد أن القصف الإيراني بالمسيرات الانتحارية والصواريخ الباليستية هي اللغة الوحيدة التي تفهمها طهران والمرشد الإيراني في التعامل مع دول الجوار، سواء العراق مباشرة أو دول الخليج بواسطة الانفصاليين الحوثيين الذين يدينون بالولاء المطلق لـ«حرس الثورة» الإيراني منذ أيام قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» الذي قتل على أسوار مطار بغداد الدولي في أول أيام عام 2020، وكان ذلك أفضل ما قام به الرئيس الأميركي السابق دونالد ترمب طوال فترة رئاسته الأولى والأخيرة.
النظام الإيراني الكسيح يستعرض عضلاته الضامرة أمام العالم، لأن الجهل والحماقة يوحيان له أنه صار من دول العالم الكبرى التي يناطحها منذ سنوات لتوقيع اتفاقية نووية جديدة بدلاً عن تلك التي رفضها ترمب، أو تعديل الاتفاقية السابقة بأي شروط أميركية أو أوروبية؛ فالمرشد الإيراني على وشك الرحيل، والذي سيأتي بعده أسوأ منه، لأن المدرسة «الدينية» الإيرانية لا تنتج أي خير للعالم، وها هو العراق وسوريا ولبنان واليمن ودول الخليج العربي تعاني كلها من هذا النظام المنبوذ والمشبوه والمأزوم.
منذ عام 2003 وبسبب الاحتلال الأميركي العدواني على العراق، وعملاء إيران من الطائفيين العراقيين المنتمين إلى «فيلق القدس»، صار من حق هذا الفيلق الإرهابي أن يغزو العراق في أي وقت سواء بقصف إقليم كردستان أو المناسبات الطائفية (وهي بالمئات سنوياً) ليتجاوز الحدود الجغرافية والسياسية والقانون الدولي ويدفع أكثر من مليوني (زائر) إيراني بينهم شرطة وباسيج و«فيلق القدس» الإرهابي إلى المزارات الدينية بلا جوازات سفر ولا أختام ولا هويات. هل شاهدتم حتى في الأفلام السينمائية الكوميدية سياحاً يدخلون دولة أخرى على الدراجات النارية والهوائية أو العربات التي تجرها الخيول أو حتى مشياً على الأقدام؟! ولا يغادرون العراق إلا بعد أن يفسدوا ما في الأرض.
أما الحكومة العراقية فهي جاهزة للرد الفوري على هذا الاستهتار الفارسي ببيانات احتجاج دبلوماسية بعد أن تهدي تحياتها، وهي احتجاجات شديدة اللهجة لا يشتريها أي بقال بفلس واحد. فليستنكر العراقيون قصف الطائرات المسيرة الإيرانية للمدن والقرى والمزارع والجبال، فهي مجرد احتجاجات تذروها الرياح ما دام ما يسمى بـ«الإطار التنسيقي» أو «إدارة الدولة» ينعم بالميليشيات والحشد الطائفي والفساد الحكومي الذي لا مثيل له حتى في جمهوريات الموز.
في اليوم الثاني للقصف، اعتذرت إيران للعراق وشنت قصفاً جديداً بالمدافع والمسيرات أدى إلى مقتل 13 شخصاً وإصابة 58 آخرين بينهم أطفال ونساء. ولم تكن طهران تجرؤ على توجيه هذا القصف إلى العراق حتى في «قادسية صدام» في الحرب العراقية - الإيرانية (1980 - 1988) لأنها تعرف أن الرد العراقي سيكون جحيماً كما حدث في جزيرة خرج الإيرانية في مياه الخليج العربي وعبادان والمحمرة وحتى طهران نفسها.
أغلب الظن أن السفير الإيراني في بغداد محمد كاظم آل صادق لم ينم ليلة تسلمه الاحتجاج العراقي «الشديد اللهجة»، ونهض فجراً ليرمي الاحتجاج في سلة المهملات لأنه لا يكلف نفسه حتى إيصاله إلى وزارة الخارجية الإيرانية، ما دامت الوزارة نفسها سترمي الاحتجاج في سلة مشابهة.
وكثر الله خير المملكة العربية السعودية التي «أدانت القصف الإيراني، مستنكرة بشدة الهجمات الصاروخية ورفضها لجميع الاعتداءات التي تهدد أمن العراق واستقراره، ومشددة على أهمية وقوف المجتمع الدولي أمام الانتهاكات الإيرانية كافة التي تخالف القوانين والمواثيق والأعراف الدولية».
قبل بدء الحرب العراقية - الإيرانية في سبتمبر (أيلول) 1980، بدأت طهران بقصف مخافر حدودية في القاطع الأوسط من الحدود بين البلدين، وشمل القصف مدن خانقين ومندلي وبدرة والنفط خانة. وعقب كل قصف كانت وزارة الخارجية العراقية توجه مذكرة احتجاج «شديدة اللهجة» إلى الجانب الإيراني، بالإضافة إلى تسليم مذكرات احتجاج عقب كل خرق لمياه شط العرب جنوب العراق والمياه الإقليمية في الخليج العربي أو احتجاز صيادي الأسماك العراقيين من قبل البحرية الإيرانية. وكل هذه المذكرات كانت المقدمة التاريخية لبدء الحرب بين البلدين، بالإضافة إلى جفاف العلاقات الرسمية والشعبية بين النظامين. القصد: أن مذكرات الاحتجاج «الشديدة اللهجة» ليست فعالة دائماً، وإلا كانت نفعت في الأزمات الدولية الأخرى، مثل ما بين دولة الإمارات وإيران حول الجزر الإماراتية الثلاث في الخليج العربي، وبين اليونان وتركيا حول قبرص، وبين موسكو وكييف حول سعي أوكرانيا للانضمام إلى حلف الناتو.
وأحياناً تصدر الدول وتوزع مذكرات احتجاج شديدة اللهجة بالجملة إذا استدعى الأمر ذلك؛ ففي الأول من يونيو (حزيران) 2021 استدعت وزارة الخارجية الفلسطينية سفراء 4 دول أوروبية وهي بريطانيا والنمسا والتشيك وبلغاريا، وسلمتهم رسائل احتجاج على تصويت بلدانهم سلباً على قرارات تتعلق بفلسطين في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة ومنظمة الصحة العالمية.
وفي أحيان أخرى تصدر مذكرات احتجاج في قضايا غير سياسية، ففي 15 يوليو (تموز) 2021 استدعت وزارة الخارجية التركية السفير اليوناني في أنقرة ميشال كريستوس دياميسيس وسلمته مذكرة احتجاج على ما وصفته بـ«سوء معاملة» واجهه فريق «غالطة سراي» لكرة القدم التركي في مطار أثينا! وذكرني اسم السفير اليوناني بالممثل المكسيكي الأصل الراحل أنتوني كوين في فيلم «زوربا» الشهير وهو يؤدي رقصة «السرتاكي» على أنغام الموسيقار اليوناني ميكيس ثيودوراكيس. هذه الرقصة الاستثنائية وحدها قادرة على إصلاح العلاقات بين تركيا واليونان، ولا داعي لمذكرات احتجاجات غير مجدية.
من سخريات القدر حالياً أن نظام الملالي في طهران استدعى قبل أيام سفيري بريطانيا والنرويج ووجه لهما احتجاجاً شفهياً بسبب موقفهما من المظاهرات الشعبية التي عمت إيران احتجاجاً على مقتل شابة إيرانية من أصل كردي على أيدي شرطة النظام. لم يعد لدى وزارة الخارجية في طهران أي وقت لكتابة مذكرات احتجاج شديدة اللهجة، فلجأت إلى احتجاجات شفهية شديدة اللهجة أيضاً تتخللها عبارات نابية كتلك التي نسمعها في الأسواق الشعبية ومجلس النواب العراقي.
أكتب هذا المقال وأنا لا أعرف من الذي «ابتكر» نكتة الاحتجاج «الشديد اللهجة»، فهي عبارة لا تمت إلى اللغة الدبلوماسية بصلة لا من قريب ولا من بعيد. ألا تكفي كلمة «الاحتجاج»؟
TT
احتجاجات شديدة اللهجة... هل لها قيمة؟
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة