د. ياسر عبد العزيز
TT

لماذا رفضت هذه المذيعة ارتداء الحجاب؟

السؤال الوارد في عنوان هذا المقال يتعلق بمذيعة شبكة «سي إن إن» الشهيرة كريستيان أمانبور، وهي مذيعة رئيسية في تلك الشبكة الإعلامية النافذة، وقد استطاعت أن تحصل على موافقة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي لإجراء مقابلة معه، على هامش وجوده في نيويورك، لحضور اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة، في الأسبوع الماضي.
ورغم إنجاز ترتيبات المقابلة كلها، وانتظار طاقم المحطة لحضور الرئيس، فإن هذا الأخير لم يحضر، ولم تجر المقابلة كما كان مُخططاً، والسبب أن المذيعة -وهي إيرانية الأصل- رفضت بـ«أدب» طلباً من مكتب الرئيس بـ«ضرورة» ارتدائها غطاء رأس خلال المقابلة.
وهكذا، بدلاً من الحوار الذي انتظره جمهور الشبكة للتعرف إلى آراء الرئيس الإيراني في المستجدات الخطيرة التي تواجهها بلاده، وموقفه إزاء فورة الاحتجاجات التي تعم مدناً عدة في إيران، لم نحصل إلا على صورة لكريستيان أمانبور، جالسة من دون غطاء رأس، في مواجهة مقعد خالٍ، لم يأتٍ رئيسي ليشغله.
فهل يحق للضيف، حتى لو كان رئيساً أو مسؤولاً رفيعاً، أن يفرض اشتراطات معينة للزيّ الذي ترتديه المذيعة التي تحاوره؟ وهل يتوجب على المذيعة أن تنصاع لهذه الاشتراطات، حتى لو كانت تناقض سلوكها الطبيعي، ولا تتمتع بالقدرة على الإلزام في البيئة التي تعمل بها؟
كان هذان السؤالان مثار جدل خلال الأيام الفائتة على خلفية هذه الواقعة، خصوصاً أنهما يتعلقان بآداب المقابلات الصحافية وتقاليدها المرعية من جانب، ويتقاطعان، من جانب آخر، مع موضوع ظل خلافياً لوقت طويل، وهو موضوع الخلط الذي يحدث عادةً، ويخلق الكثير من المشكلات، بين ما هو سياسي وما هو مهني ومؤسسي في عمل الإعلام.
لقد ظل ارتداء المذيعات الحجاب أو النقاب قضية إشكالية ومثيرة للجدل في أدبيات الإعلام في الشرق والغرب، وفي هذا الصدد هيمنت حجة غربية مفادها أن كلا الرداءين إنما يمثل «مقاومة شخصية لضغوط الاندماج والانفتاح، ويُفسد على الوسيلة الإعلامية جهودها لإظهار الحياد والموضوعية في القضايا التي يختلط فيها الديني بالسياسي». وفي المقابل، برزت حجة وجدت رواجاً نسبياً في الشرق، مستندة إلى أن هذين الرداءين إنما يمثلان «التزاماً عقائدياً لا يفسد بالضرورة الالتزام بالمبادئ المهنية والمعايير التحريرية».
وإضافة إلى ذلك، نشأ الخلاف حول ما إذا كان منع المذيعة، أو إجبارها، على ارتداء «شارة دينية» ذات دلالات سياسية، في بعض الأحيان، يمثل اعتداء على حريتها، أم يشير إلى رغبة في الاتساق مع مقتضيات السياسة التحريرية والأعراف السائدة في مجتمع ما.
من جانبي، لا أرى أن الزي الذي ترتديه المذيعة في أثناء ظهورها على الشاشة يمكن أن يتحدد على قاعدة ثابتة تصلح للمجتمعات كافة؛ إذ لا يصح أن نتوقع أن ما ترتضيه الثقافة الأوروبية في هذا الصدد مشابه تماماً لما تقبله الثقافة السائدة في بلدان منطقة الشرق الأوسط.
لكن ما فعله مكتب الرئيس رئيسي لم يكن تقاطعاً موضوعياً مع هذا الخلاف، بقدر ما كان محاولة للضغط على المذيعة لارتداء زي معين هو الآن موضوع جدل وطني إيراني، وبسبب اختلاف الآراء حوله تندلع الاحتجاجات، وتتظاهر النساء، ويُقتل متظاهرون في الشوارع.
عندما رفضت أمانبور طلب مكتب الرئيس الإيراني ارتداء الحجاب في أثناء مقابلته لم تخرق قاعدة إعلامية، أو تفوّت فرصة مهنية لإحراز سبق صحافي بسبب اعتبار شكلي، لكنها أظهرت الحرص على عدم تورطها شخصياً، والوسيلة التي تمثلها، في النزاع الدائر في إيران حالياً بصدد إلزام النساء بارتداء الحجاب، والدور المُختلف عليه لـ«شرطة الأخلاق» في هذا البلد، الذي يُصنف بأنه «غير حر» على المستوى الإعلامي.
لقد أراد رئيسي أن يستخدم مقابلته مع أمانبور لتقوية روابطه مع المتشددين الإيرانيين في ظل تصاعد الاحتجاجات ضد حكومته، عبر إجبارها على ارتداء غطاء الرأس، وهو الأمر الذي فطنت «سي إن إن» إليه على الأرجح، ورفضته المذيعة. فلو كانت هذه المقابلة سُتجرى في مكتب الرئيس رئيسي، أو في أي موقع آخر في إيران، لكان يتوجب على المذيعة أن ترتدي زياً يتسق مع الثقافة السائدة في هذا البلد، ويحترمها، ولا يخرق التزامات اللباس القانونية النافذة فيه، وهو الأمر الذي ينطبق أيضاً على المقابلات المماثلة التي تجري مع القادة الدينيين، أو التقارير التي يتم بثها بواسطة صحافيات من مواقع تشترط زياً محدداً.
كريستيان أمانبور لم تكن مُخطئة حين رفضت التورط في الصراع الدائر في إيران حالياً، عبر إلزامها بارتداء الحجاب في نيويورك، التي لا تُلزم المذيعات العاملات فيها بارتداء زي معين.