أنتجت وفاة ميخائيل غورباتشوف سيلاً من المقالات والأفلام التسجيلية والتعليقات من كافة أرجاء المعمورة، حول الإرث التاريخي لآخر من حكم الاتحاد السوفياتي، بعضها إيجابي والآخر سلبي، والجزء الأصغر هو المحايد.
في روسيا، ما زال إرث الرجل موضوع خلاف محتدم؛ حيث يحمّله الكثير مسؤولية زوال الاتحاد السوفياتي، وفقدان روسيا وضعها كقوة عظمى، الأمر الذي يلامس وتراً حساساً لدى معظم الروس الذين يفخرون بوطنهم كدولة استثنائية، ذات رسالة عالمية. وهناك من يثمنون دور غورباتشوف في فتح المجال أمام ممارسة الروس لقسط أكبر من الحريات السياسية والاقتصادية.
ففي الجمهوريات السوفياتية السابقة، في البلطيق والقوقاز وآسيا الوسطى وشرق أوروبا وبقية دول أوروبا الشرقية التي كانت تدور في فلك موسكو، يقدّرون عالياً دوره في تدشين العملية التي أدت إلى الاستقلال. أما في الغرب، فالثناء على دور غورباتشوف كان عارماً. ولكن، في كثير من الدول النامية، يعتبر غورباتشوف شخصية مثيرة للجدل، ويحمّلونه مسؤولية زوال الاتحاد السوفياتي، وانتهاء القطبية الثنائية التي كانت توفر قدراً كبيراً من الاستقرار في النظام الدولي، الأمر الذي انعكس في الاستخدام السافر للقوة، سواء كان ذلك على شكل تفجير صراعات داخل الدول نفسها، أو التدخلات العسكرية الأجنبية، كما حدث في البلقان وأفغانستان والعراق وليبيا وسوريا. وكان لي الحظ في أن أكون شاهداً بشكل مباشر على حقبة غورباتشوف؛ حيث عملت في السفارة المصرية في موسكو خلال الفترة من 1986 إلى 1990، أي من بعد وصول غورباتشوف إلى سدة الحكم بعام، إلى قبل انهيار الاتحاد السوفياتي بعام.
وقد تمكنتُ من المراقبة من كثب، وبشكل ملموس، لعملية الإصلاح التي بدأها غورباتشوف من خلال سياستَي «غلاسنوست» (الشفافية)، و«بيريسترويكا» (إعادة الهيكلة أو الإصلاح الاقتصادي). وعايشتُ أيضاً العوامل العديدة التي كانت مسؤولة عن انهيار روسيا السوفياتية، كما لمستُ رغبة الشعب السوفياتي في التغيير وتحقيق مستوى معيشة أفضل، وإرهاصات الشعور الوطني المتزايدة، والتطلع إلى الاستقلال في أماكن مختلفة، مثل تالين وتبليسي وسمرقند.
لكن النظام السوفياتي أثبت أنه غير قابل للإصلاح، بسبب ضعفه الهيكلي والفساد المستشري، إلى درجة جعلت أي محاولة للتغيير مستحيلة. ففي تقديري، إن لم يكن غورباتشوف هو الذي بدأ عملية الإصلاح، لكان شخص آخر من الجيل نفسه سيقدم عليها. فعلى عكس الأجيال السابقة التي حكمت الاتحاد السوفياتي، كان جيل غورباتشوف أكثر واقعية بشأن قدرة النظام السوفياتي على توفير مستوى المعيشة الذي يتطلع إليه الشعب. فلم يعد ممكناً تسويق وهم «اليوتوبيا» الاشتراكية في صفوف الشعب الذي أصبح يتطلع إلى حياة توازي تلك التي تتمتع بها الشعوب في الدول الغربية. لذلك كان الإصلاح حتمياً، وكانت القضية في كيفية تحقيق ذلك.
كان توجه غورباتشوف الأولي كزعيم للحزب الشيوعي، هو التركيز على الإصلاح الاقتصادي كمدخل للإصلاح السياسي. وجاء ذلك من خلال السماح بإنشاء «قطاع تعاوني» يفتح المجال أمام المبادرة الفردية، في إطار تعاوني كخطوة أولى نحو إقامة قطاع خاص بعيداً عن الاستغلال؛ لكن سرعان ما اصطدمت هذه الخطوة المتواضعة بمقاومة شرسة من الحزب المسيطر على مفاصل الدولة، الأمر الذي دفعه إلى تحويل اهتمامه إلى الإصلاح السياسي، من خلال توليه رئاسة الجمهورية إضافة لرئاسة الحزب، بهدف تحويل ميزان القوة بعيداً عن الحزب الشيوعي. فأصبحت جريدة «إزفستيا» التي تعكس وجهة نظر الحكومة، ولأول مرة منذ الثورة البلشفية، أكثر أهمية من صحيفة «برافدا»، صحيفة الحزب الشيوعي، كمنصة للتعبير عن مواقف القيادة.
ومع ذلك، باءت جهود غورباتشوف بالفشل، نتيجة التخبط والارتباك داخل مؤسسات الحكم، الأمر الذي أدى في النهاية إلى انهيار النظام السوفياتي.
وعلى الرغم من فشل سياسات غورباتشوف في الإصلاح الداخلي، فإن أسس السياسة الخارجية التي وضعها آنذاك ما زالت بصماتها ملموسة على السياسة الخارجية لروسيا لحد الآن. وهدفت السياسة الخارجية لغورباتشوف إلى خلق مناخ مساعد لعملية الإصلاح، الأمر الذي انعكس في أولويات محددة وواضحة: تحسين العلاقة بالغرب، وخصوصاً الولايات المتحدة، والتعاون الوثيق مع الصين، وتخفيض التزامات الاتحاد السوفياتي في جميع أنحاء العالم، وإقامة علاقات متوازنة بكافة الدول، بما في ذلك في الشرق الأوسط.
فبعد رحيل المستشارين العسكريين السوفيات من مصر عام 1972، وما تلاه من تدهور في العلاقات بين القاهرة وموسكو، تحولت سياسة الأخيرة إلى محاولة عزل مصر عن محيطها الإقليمي، من خلال دعم «جبهة الصمود والتصدي» العربية، المؤلفة من الجزائر وليبيا والعراق وجنوب اليمن وسوريا ومنظمة التحرير الفلسطينية. وخلال تلك الفترة استمرت العلاقات مع إسرائيل باردة، كما أن العلاقات بكل من إيران وتركيا استمرت على نمطها التاريخي، كمزيج من الشك والاختلاف والتعاون. أما مع تولي غورباتشوف قيادة الاتحاد السوفياتي عام 1985، فقد خضعت هذه السياسة لتغييرات مهمة؛ إذ أُعطيت الأولوية لتحسين العلاقات بالقاهرة. فبعد انقطاع دام خمس سنوات، تم رفع التمثيل الدبلوماسي بين البلدين عام 1985 إلى مستوى السفير، وتم حل مشكلة الديون المصرية الأزلية للاتحاد السوفياتي، وهو ما فتح الباب أمام علاقات اقتصادية وتجارية أكثر نشاطاً وكثافة. وانعكس ذلك في زيارة الرئيس حسني مبارك إلى موسكو عام 1990، في أول زيارة لرئيس مصري منذ عام 1972. ومع ذلك، نجحت موسكو في الاحتفاظ بعلاقتها الوثيقة مع دول «جبهة الصمود والتصدي»، وإن شاب تلك العلاقات قدر لا بأس به من عدم الارتياح من الطرفين. فقد ووجه رئيس اليمن الجنوبي، علي سالم البيض، خلال زيارته إلى موسكو في فبراير (شباط) 1987 بموقف غير معتاد، عندما تم تحذيره، ومن خلاله الكثير من زعماء العالم الثالث الذين يصبون إلى بناء نظام اشتراكي، بألا يتوهم إمكانية حرق مراحل تاريخية في السعي لتحقيق الاشتراكية، بمعنى أن بناء المجتمع الاشتراكي يجب أن يمر بمراحل محددة ومتتابعة لا يمكن تجاوزها.
أما الرئيس السوري حافظ الأسد، فقد تعرض لمفاجأة غير سارة خلال زيارته عام 1987، حين أوضحت موسكو، وبشكل شبه رسمي، وعلى غير المعتاد مع قيادات الدول الصديقة، أن هناك اختلافاً في المواقف ووجهات النظر بشأن عديد من القضايا. وفيما يخص العراق الذي كان يعتمد على الاتحاد السوفياتي في تسليح جيشه، فقد ذاق غضب موسكو، حين وضعت الأخيرة قيوداً صارمة على توريد السلاح، بسبب استخدام صدام حسين لصواريخ سوفياتية لقصف المدنيين الإيرانيين خلال ما كانت تعرف بـ«حرب المدن» إبان الحرب العراقية الإيرانية، بينما بقيت العلاقات مع كل من إيران وتركيا على نمطها التاريخي المعقد.
والأبرز في سياسة غورباتشوف الخارجية هو التحسن التدريجي في العلاقة بإسرائيل، الأمر الذي أدى إلى ازدياد مطّرد في هجرة اليهود إلى إسرائيل، ساهم بشكل أساسي في تحويل إسرائيل إلى قوة عالية التقنية على المستوى العالمي، وبالتالي تغيير ميزان القوة في الشرق الأوسط بشكل كبير.
حرص الرئيس بوتين في بداية عهده على استمرارية السياسة الخارجية التي وضع لبناتها غورباتشوف؛ خصوصاً فيما يخص التقارب مع الغرب. ولكن ما حدث من تدهور في تلك العلاقات منذ اندلاع الأزمة في أوكرانيا عام 2014 له أسباب عديدة ذات جذور عميقة، تتعلق باختلاف الرؤى للأمن في أوروبا، ومكانة روسيا الدولية. أما العلاقات بالصين فبلغت مستويات غير مسبوقة من التفاهم والتعاون على كافة الأصعدة. كذلك في الشرق الأوسط، فهناك استمرارية؛ بل تطوير للسياسة التي أرساها غورباتشوف. فقد اكتسبت العلاقات المصرية- الروسية أهمية متزايدة للبلدين، فأصبحت روسيا المصدر الرئيسي للقمح والسياحة والسلاح لمصر، علاوة على أنها أصبحت الشريك الأساسي في مجال إنتاج الطاقة النووية. كما تطورت العلاقات بدول مجلس التعاون الخليجي بشكل ملحوظ؛ خصوصاً في مجالَي التعاون العسكري والطاقة.
أما بالنسبة للعلاقات الروسية الإسرائيلية، فقد بلغت مستوى غير مسبوق، إلى الدرجة التي بدأت معها إسرائيل التنسيق مع روسيا بشأن سياساتها الأمنية، كما ظهر جلياً خلال الأزمة الأخيرة في سوريا.
وتطورت العلاقات بكل من تركيا وإيران، فأصبحت أكثر قوة وعمقاً، مع الاحتفاظ بخصوصيتها المعقدة. وفي المحصلة، أصبحت موسكو الآن القوة الكبرى الوحيدة القادرة على التحدث مع جميع الأطراف المتعارضة في الشرق الأوسط، سواء في سوريا وليبيا ولبنان والعراق وفلسطين، وفي الوقت نفسه تحتفظ بعلاقات ودية بالخصوم الإقليميين: إيران وتركيا وسوريا ومصر والمملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. وهكذا، فإن السياسة التي أرساها غورباتشوف في الشرق الأوسط، بإيجابياتها وسلبياتها، ما زالت مستمرة إلى يومنا هذا، وسيبقى الإرث السياسي لغورباتشوف مسألة مثيرة للجدل.
* سفير مصري ومسؤول أممي سابق
7:52 دقيقه
TT
إرث غورباتشوف... ما له وما عليه
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة