عادل درويش
صحافي معتمد في مجلس العموم البريطاني، وخبرة 55 عاماً في صحف «فليت ستريت». وكمراسل غطى أزمات وحروب الشرق الأوسط وأفريقيا. مؤرخ نشرت له ستة كتب بالإنجليزية، وترجمت للغات أخرى، عن حربي الخليج، و«حروب المياه»؛ أحدثها «الإسكندرية ، وداعاً: 1939-1960».
TT

إليزابيثتان وفصل جديد في التاريخ

«عقود تمر بلا حدث، وأيام امتلأت بعقود كاملة».
هذا تحويري لقول فلاديمير لينين (1870 - 1924) لوصف ثقل الأيام الحزينة التي تعيشها المملكة المتحدة، ودول الكومنولث.
لم تمض ثماني وأربعين ساعة على لقاء إليزابيث الكبرى بإليزابيث الأصغر في قلعة بالمورال حتى وقفت الأخيرة بفستان الحداد الأسود في «داونينغ ستريت» تعلن إسدال الستار على العصر الإليزابيثي الثاني، معلنة وفاة الأكبر، إليزابيث الثانية (1926 - 2022)، الوالدة والجدة والراعية للأمة مقدمة وفاء الحكومة للعاهل الجديد، تشارلز الثالث.
عندما طلبت إليزابيث الأكبر، الثلاثاء، من إليزابيث الأصغر تشكيل حكومة جلالة الملكة كرئيسة وزرائها الخامسة عشرة، والأخيرة في سلسلة أولها رجل الدولة السير ونستون تشرشل (1874 - 1965)، كبار السن منا المراقبون البرلمانيون للمراسم الدستورية (أحد عشر منذ بداية عملي الصحافي)، أشفقنا على الإليزابيثتين. الأكبر بدت بجسمها الهزيل في السادسة والتسعين تتوكأ على العصا رغم ثقة الابتسامة وحدة قدراتها الذهنية. كانت تعمل وتوقع الأوراق الرسمية، لكن صحتها تدهورت في الأشهر الأخيرة، فإصابتها بـ«كوفيد»، ووفاة رفيق دربها ودعامة حياتها الأمير فيليب (1921 - 2021) أعاقت حركتها ومنعتها من السفر للندن، فسافرت إليزابيث الأصغر إلى بالمورال. الملكة، كانت تعهدت أمام الله كأميرة التاج في الواحدة والعشرين قبل 75، أن تقضي كل حياتها مهما قصرت أو طالت في خدمة الأمة وبلدان الكومنولث، وهو ما نفذته عملياً؛ فقد أفنت عمرها في تنفيذ الوعد وأداء المهمة: تأدية الواجب.
لم يعرف أحد الأفكار الخصوصية للملكة، لكني أعيد إصرارها على تأدية الواجب الأخير، الثلاثاء، إلى سببين أساسيين، أحدهما يتعلق بخبرتها ودرايتها بتفاصيل وتقاليد وسوابق تشكل الدستور غير المكتوب؛ والآخر حكمتها وغريزة الأمومة تجاه المملكة بضرورة طمأنة الشعب على الاستمرارية بعد رحيلها. هناك مسافة زمنية قصيرة ما بين قبول استقالة رئيس وزرائها الرابع عشر، بوريس جونسون (2019 – 2022)، وتعيين السيدة تراس رئيسة وزرائها الخامسة عشر. أثناء هذا الانتقال، لا يوجد رئيس حكومة فعلي للمملكة المتحدة، في حالة وقوع طارئ يستدعي قراراً حاسماً مصيرياً؛ في هذه الفترة الانتقالية بين رئيسي الحكومة، كانت الملكة، دستورياً، هي الرئيس الفعلي للدولة والحكومة والقائد الأعلى للقوات المسلحة. السبب الآخر إليزابيث الثانية تعلمت بحكمتها أن إطلالة وجهها على رعيتها من وسائل التعبير كافة، أو بكلمتها المباشرة عبر الشاشات وموجات الأثير، في أوقات الشدة والأزمات، هي صوت الطمأنينة وبث روح الصمود وتحمل الصعاب، والنهوض من العثرة، كما عرفها كبار السن، وانتقلت حكاياتهم عبر ثلاثة أجيال عن القدوة التي ضربتها الأميرة الصغيرة التي تطوعت في الخدمة العسكرية، وهي لا تزال في سن الدراسة أثناء الحرب العالمية الثانية، وبريطانيا تحت الغارات تتدافع عن الحرية والديمقراطية ومبادئ الإنسانية ضد النازية والفاشية. كانت الرسالة الأخيرة التي أرادت إليزابيث الأكبر إيصالها للأمة لبث الأمل في أيام صعبة يمر بها الشعب اقتصادياً؛ وهو أيضاً سبب إشفاقنا على إليزابيث الأصغر رئيسة الوزراء الجديدة.
دخلت تراس «داونينغ ستريت» تواجه مشاكل تشبه حالات الحرب والطوارئ، وأزمة غير مسبوقة اقتصادياً وأسعار الطاقة التي تشل حركة الاقتصاد. كانت تراس في جلسة مجلس العموم في مناقشة سياستها الجديدة الاقتصادية والتعامل مع أزمة الطاقة، عندما أصدر القصر البيان الأول، وعرفنا، كمراقبين، ومن التعليمات للصحافيين، أن الأمر جل خطير؛ وها هي إليزابيث الأصغر تحمل على أكتافها في يومها الثالث كرئيسة حكومة، أثقالاً ومسؤوليات جديدة لم يصادفها رئيس وزراء منذ حكومة السير ونستون تشرشل الثالثة (1951 - 1955) بوفاة الملك جورج السادس (1895 - 1952)، وترتيب جنازة الدولة الرسمية في شتاء 1952. وانتقال التاج، وقتها، إلى الأميرة الشابة إليزابيث، وتعديل الترتيبات الدستورية (لم تتوج الملكة رسمياً إلا في ربيع العام التالي).
وحتى كتابة هذه السطور، لا يزال الـBriefing للصحافيين من «داونينغ ستريت» ومن قصر باكنغهام، مستمراً يومياً، لترتيب الجنازة الرسمية، واتصال مستمر بين مكتب رئيسة الحكومة تراس، والقصر، ومجلس اللوردات وبالتحديد الإيرل مارشال، إدوارد فيتزالان - هوارد الدوق الثامن عشر لنورفوك، وهو منصب وراثي (ربما يراه البعض عبر الشاشات بالملابس التقليدية مستقبلاً الملكة لحظة وصولها مبني البرلمان في الافتتاح الرسمي للدورة البرلمانية) المسؤول عن ترتيب البروتكولات الرسمية، ومنها جنازة الملكة، ومع المجلس الملكي الاستشاري وبقية اللوردات (لتنصيب تشارلز الثالث ملكاً بالتقاليد الدستورية التي تمت أمس السبت في قصر سانت جيمس) وكبير أساقفة كانتربري وعميدة كاتدرائية سانت بول لمشاركتها في صلاة تذكر الملكة التي تمت مساء الجمعة. بجانب التنسيق مع الخارجية لترتيب حضور عشرات من ملوك وحكام ورؤساء الدول والمنظمات الدولية التي تمثل في الجنازة. بجانب كل هذا، أمام إليزابيث تراس تنفيذ وعدها بتجميد أسعار فواتير الوقود والجدل مع بيروقراطي الخزانة، بجانب أن فترة الحداد وانشغال البرلمان بمراسم التأبين عطل مناقشة مشروعها الاقتصادي الجديد.
بعد ظهر الجمعة كان أول لقاء بين الملك تشارلز الثالث وتراس، لتتلقى منه التعليمات بشأن الجنازة، ويتبادلان المشورة قبل تسجيله خطابه الأول كملك يبث للأمة، واطلاعه على برنامج الحكومة... جهاز العمل لا يتوقف رغم الحداد.
ورغم شعار الملك يملك ولا يحكم، فإن العلاقة بين التاج والبرلمان أكثر عمقاً من الظاهر، مثلما ذكرت «أم المجلس» (أقدم نائبة في وستمنستر، الوزيرة السابقة هارييت هارمان) في كلمة تأبين الملكة، وبذكريات رؤساء الوزراء السابقين، أن الحوار الخاص بين الملكة وبينهم، هو نصائح وتعليمات وتوجيهات، تؤكد الدور المحوري للعرش كالصخرة التي ترتكز عليها الديمقراطية البريطانية.
تشارلز اقتفى آثار خطوات إليزابيث الثانية، سواء بتجوله بين الآلاف من رعاياه على بوابة قصر باكنغهام يتقبل الزهور ويصافحهم؛ أو بتقليد تعهده في خطابه الأول المبث بأن يقضي بقية سنوات حياته في تأدية الواجب: حماية الدستور والديمقراطية وخدمة الأمة وكل شعوب الكومنولث. فهل تبث روح إليزابيث الكبيرة طاقتها في علاقة تشارلز الثالث مع رئيسة وزرائه الأولى، إليزابيث الأصغر؟