يبدو أن ثمة هوساً طاغياً لمعظم الدول الكبرى بالتوسع الاقتصادي، لكي تظل تلك الدول ضمن ترتيبات النفوذ الاقتصادي وحصد مكاسب جدية تنوع آليات عملها ومخاطبتها للرأي العام، وتلك حالة تبعث على القلق في واقع محتكر، نشأت فيه روح المغامرة الحية وصراع مرعب يشكل نواة لأطماع دفينة نحو القارة الأفريقية. فبعد انقلاب غينيا الذي أطاح بالرئيس ألفا كوندي، تجددت أطماع الدول الكبرى في أفريقيا، ولم تكن أمامها إلا غاية واحدة، وهي استغلال هذه الموارد، بعدما كثر الحديث عن مادة البوكسايت التي تمتلك غينيا منها كميات كبيرة، ومن ثم تحدثت روسيا والصين عن أهمية غينيا، وعملت موسكو على تأمين استثماراتها، ولكن ما الهدف الذي تسعى لتحقيقه الدول الكبرى في أفريقيا ويعتبر إحرازه أمراً مهماً؟
ومهما كانت الطريقة، علينا فهم الأسباب التي جعلت هذا التغلغل المحسوب، محط نظر وتركيز على ثاني كبرى القارات مساحة وامتداداً جغرافيّاً، يلفت الانتباه بشدة إلى الحيز والمجال الذي أعاد تركيب الواقع بمفاهيم عامة ومجردة ومفرطة في الاتساع، وهو ما يفسّر استراتيجيات بعض الدول المتنافسة لبناء قواعد عسكرية برية وبحرية بمناطق حيوية مختلفة داخل القارة.
على هذا النحو يمكن اكتشاف اختلاف المطامع التي تولد الأخطاء والعلاقات المعقدة، فالأمر أشبه بمرايا متعاكسة تُحدث تغييراً وتبديلاً، يتضح من خلالها أن الانقلابات غير المسبوقة التي شهدتها أفريقيا مؤخراً، تدل على مخططات خارجية، تصنع الضوضاء للحصول على مزيد من الأهداف التي تقوم بها دول لتقويض مصالح القوى الأخرى، أضف لها تعثر الاقتصاد والتنمية، وجميع الإشكاليات الإقليمية المدججة بالصراعات المتداخلة.
وما يجري ليس استعادة نفوذ، بل هو صراع نفوذ دولي على القارة، وأفريقيا قد تصبح واحدة من أهم المناطق الاستراتيجية، إذ إن المنافسة بين الدول الكبرى في القارة ستزيد من حاجة واشنطن للتدخل وحماية مصالحها وتسويق الديمقراطية والتجارة والمشروعات الحرة، لفرض مزيد من الهيمنة في مقابل وجود روسيا والصين بالقارة.
بعدما شهدت العلاقات الاقتصادية بين الجانبين تراجعاً كبيراً خلال رئاسة ترمب، أحياناً لا تكون المهمة ممتعة ولا مريحة، لكنها تظل تتطلب الإنجاز ويوضع لها توقعات منطقية لا تتقيد كثيراً بالنتائج، ويظل تركيزها المتزايد على المهمة، خصوصاً بعدما وسعت روسيا من وجودها في أفريقيا خلال السنوات الأخيرة، إذ وقّعت صفقات عسكرية مع 19 دولة على الأقل منذ عام 2014، وأصبحت أكبر مورد للأسلحة في القارة، كما تسعى الصين للحصول على نفوذ واسع لها. وعودة المنافسة بين القوى العظمى لا تعني أن الولايات المتحدة يمكنها تشتيت انتباهها بعيداً عن أفريقيا، ولكن على العكس من ذلك، فإن زيادة النشاط الروسي والصيني في القارة، انطلاق لمرحلة من مراحل قوة الانتصار ويتطلب الأمر انخراطاً أميركياً أعمق للعودة.
لقد تزامن الوجود الصيني في القارة بعد التزامات قاسية فرضتها الدول الغربية، بتنفيذ برامج اقتصادية قاسية زادت من عزلتها وتدهورها، لذا، يعتبر وصول الصين إلى أفريقيا أهم تطور في القارة بعد الحرب الباردة؛ حيث أصبح حضورها المتنامي يعكس أولوياتها من الناحية الاقتصادية والسياسية، ومن الواضح أن الأمر يتعلق أولاً بضمان التفوق التجاري والتنمية الاقتصادية للصين، ويتطلب هذا التطور داخليّاً وخارجيّاً تأمين المواد الأولية الاستراتيجية.
والحصول على الموارد يلعب دوراً مهمّاً في مشاركة الصين الاقتصادية في أفريقيا، ولكنه ليس التفسير الوحيد لعلاقاتها مع المنطقة، التي تختلف كثيرا عمَّا قد يوحي به ذلك، إنه السؤال الذي ظل يلازمنا على امتداد هذه الأحداث، فهل انخراط الصين القوي والسريع اقتصادياً في أفريقيا غاية في حدِّ ذاته (أي من أجل مصلحة أفريقيا) أم أنه مجرد وسيلة لتحقيق أهداف أكثر أهمية؟ وفي تقرير للبنك الدولي، فإنه ومنذ عام 2008، أصبحت الصين أكبر مستثمر في أفريقيا، ومحركاً مهماً للنمو الاقتصاد الأفريقي.
هي في الحقيقة آراء تسمح بمساومة مع الرأي العام في أنماطه المتعددة، فالتطور التاريخي للعلاقات الصينية - الأفريقية، له دوافع وأهداف، بحكم مكانة القارة في سياستها الخارجية والتحديات التي تعترضها، كما نتساءل عن مكاسب القارة من دخول الصين ومخاوفها، وأخيراً الموقع الذي تحتله الصين بين باقي القوى المتنافسة، فما زالت أفريقيا أيضاً منطقة تنافس بين الصين وروسيا، وأكد ذلك الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، إذ أشار إلى أن تقوية العلاقات مع البلدان الأفريقية يعد إحدى أولويات السياسة الخارجية الروسية. وموسكو تعمل على تعزيز وجودها في أفريقيا بشكل عام، وتستغل في ذلك علاقاتها بدول القارة الأفريقية منذ فترة الاتحاد السوفياتي.
فليس الوضوح ينتج دائماً عن الاهتمام، إذا كان الفضاء الجديد يفرض على الكل أن يعمل في سياقات مختلفة ومتعارضة أحياناً، ولكن تظل أميركا الراعي الرسمي للمشهد السياسي في العالم، وأكثر اتساعاً مما يشترطه الواقع، والرئيس الأميركي جو بايدن أعلن، في بيان نشره البيت الأبيض، أخيراً، استضافة الولايات المتحدة «القمة الأميركية - الأفريقية» الثانية مع قادة دول القارة السمراء خلال الفترة من الـ13 وحتى الـ15 من ديسمبر (كانون الأول) 2022، وأوضح أن هذه القمة «تثبت التزام واشنطن الدائم تجاه القارة، وتؤكد أهمية تعزيز سبل التعاون في شأن الأولويات العالمية المشتركة، وتستند إلى قيمنا المشتركة لتعزيز المشاركة الاقتصادية الجديدة بشكل أفضل، وتعزيز التزام الولايات المتحدة وأفريقيا بالديمقراطية وحقوق الإنسان».
8:32 دقيقه
TT
تنافس القوى الكبرى على المسرح الأفريقي
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة