زين العابدين الركابي
كاتب سعوديّ
TT

«المجاهدة العلمية الواجبة» لـ«الجهاد البدعي» ذي التأويل الفاسد

لهذا المقال مدخلان.. زمنيان موضوعيان:
1) مدخل انعقاد اجتماع غربي - عربي في لاهاي في الأسبوع الماضي.. وأجندة الاجتماع هي: بحث مكافحة الإرهاب بعد تزايد رقعته، وتكاثر أعداد المنخرطين فيه، لا سيما مخاطر عودة المسلحين الغربيين إلى بلادهم لممارسة الإرهاب فيها بعد عودتهم إليها!!
2) ومدخل صدور قرارات وقوانين سياسية وشرعية - في السعودية - تقضي بمنع سفر شباب سعودي إلى أي بلد بهدف المشاركة في القتال الدائر فيه.
والحق أن الالتهاب السياسي - على كل مستوى - قد أذهل كثيرا من الناس. أو قلل اهتمامهم بـ«المخاطر الأكبر» المتمثلة في استغلال قادة الإرهاب لظروف الاضطراب والصراع الذي تشهده المنطقة: استغلوا ذلك في تفعيل خططهم وبرامجهم النائمة وإنزالها إلى ساحات الفعل والتطبيق عبر شبكة إقليمية وعالمية تفننت في تجنيد ألوف الشباب المسلم وزجهم في أفران القتل والقتال.. وهذه ظاهرة مرعبة تنبه لها الساسة بعد أن غفلوا عنها، وفق هذه الحسابات السياسية أو تلك. ولطالما قلنا: إن أي حساب سياسي ناجح ينبغي أن يمد بصره إلى الآثار الجانبية للقرار السياسي ابتغاء أن يتقيها، ولو قضت الوقاية من هذه الآثار بالكف أو العدول عن القرار السياسي نفسه!!.. إذ المضمون الأهم للقرار السياسي هو تحقيق المصلحة أو زيادتها، لا تفويتها أو نقصها.
ومع أن تفريعات هذه القضية كثيرة ومتنوعة، فإننا نركز على القضية الأم المتعلقة بـ«مفهوم الجهاد» الذي يستهوي الشباب فيندفعون إلى ما قيل إنه جهاد: اندفاع العطشان إلى النمير العذب!!
ومن حيث العمر قد لا يلام الشباب البريء على اندفاعه وحماسته. فالحماسة لازمة من لوازم هذه السن في حياة الإنسان.. ولذا قيل - مجازا: إن الشباب ضرب من الجنون.
وإنما يلام الذين قصروا في توجيهه وتصحيح مفاهيمه، خاصة في مسألة «الجهاد».
وإنما يلام – قبلا - أولئك الذين «زينوا» له الجهاد - بالمفهوم الغلط، في نشوة تقديرات سياسية خاطئة أو متعجلة، أو نسبة الانفعال فيها رجحت نسبة العقل والحكمة. في العام الماضي - مثلا - وفي نصيفه بالتحديد، اجتمع لفيف من العلماء والدعاة منحوا أنفسهم أو نحلوها صفة «علماء الأمة».. ثم أصدروا بيانا يعلنون فيه «النفير العام» للجهاد.. هنالك: كتبنا - في هذه الصحيفة في المكان ذاته - نقدا للبيان المرعب الدامي الذي أصدره أولئك النفر في القاهرة.. ومما قلناه – يومها: ما هذا الذي يجري في ديار المسلمين فيؤدي إلى «فوضى إسلامية» هدامة؟!.. ولكي نتصور عواقب وآثار هذا الكلام المثير المهيج المطلق، فلنتصور - قبل ذلك - أن مسلمي العالم قد فقدوا رشدهم وانخرطوا في تطبيق هذا البيان. ولنتصور – بالتالي - أن هؤلاء المسلمين الكثر هرعوا إلى الموانئ الجوية والبحرية والبرية في بلدانهم بهدف «الجهاد» أو القتال.. ولنتصور نتيجة لذلك أن حكومات تلك الجماهير المتحمسة للجهاد منعتهم من الذهاب إلى حيث يريدون (وهذا هو الواقع الذي سيكون بلا شك). فكل حكومة لا تقبل أن يتجاوز مواطنوها قوانينها وأنظمتها وقرارها السيادي وعلاقاتها الدولية.. وعند المنع ستقع المدافعة، ويقع صراع بين تلك الجماهير وبين السلطات في بلدانها.. وعندئذ، ربما أفتى مفت فرعي بوجوب قتال السلطات التي تمنع - في نظره - المسلمين من أداء «فرض عين» - وفق نص البيان.. أليس ذلك كله ذريعة واسعة جدا لإحداث فتنة عامة عمياء دامية في العالم الإسلامي كله؟.. بلى والذي شرع الجهاد، وهدى نبيه - صلى الله عليه وآله وسلم - إلى مباشرته بشروطه خلف ولي الأمر أو الحاكم، وإن كان فاجرا (!!!!). فمن حكمة وجوب الدفاع أو القتال خلف الحاكم الفاجر: ألا يكون الجهاد فوضى ضاربة، يمارسه من يشاء، ويأمر به من يشاء، بناء على اعتبار «الصلاح الشخصي» فحسب!!
وننتقل من هذه الصورة العامة إلى صلب الموضوع وهو: موضوع مبدوء بسؤال فيصل محدد وهو: إعلان النفير العام من صلاحية من؟.. من صلاحية العلماء.. أم من صلاحيات الحاكم؟
غريب أن نطرق «المسلّمات البدهية»، وإلا فإن المعلوم في دين الإسلام أن الجهاد «بمفهومه الصحيح وشرائطه المعتبرة» لا يصح، ولا يجوز، ولا يباشر إلا خلف الحاكم الموجود، وبإذنه.
وهذا هو البرهان المبين من الدين:
أ) قال النبي صلى الله عليه وسلم: «وإنما الإمام جُنة يُقاتَل مِن ورائه، ويُتقى به»، قال ابن حجر - في «الفتح»: «والمراد بالإمام كل قائم بأمور الناس».
ب) وقال: «الجهاد واجب عليكم مع كل أمير برا كان أو فاجرا».. وهنا نعيد التوكيد على أن حكمة وجوب الجهاد المشروع مع الأمير الفاجر دفع الفوضى في الجهاد أو القتال، إذ لا تصلح الناس فوضى لا سراة لهم.. والحاكم الفاجر خير من الفوضى بلا ريب.
ج) وقال: «وإذا استنفرتم فانفروا». والاستنفار إنما يكون للإمام أو الحاكم. ففي شرح «عمدة الأحكام» للعلامة البسام: «وفي ثلاثة مواضع يكون الجهاد فرضا عينا، منها إذا استنفر الإمام الناس استنفارا عاما أو خص واحدا بعينه لقوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا ما لكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثّاقلتم إلى الأرض)».
د) وقال: «الغزو غزوان: فغزو تنفق فيه الكريمة، ويياسر الشريك، ويطاع فيه ذو الأمر، ويجتنب فيه الفساد، فذلك غزو خير كله.. وغزو لا تنفق فيه الكريمة، ولا يياسر الشريك، ولا يطاع فيه ذو الأمر، ولا يجتنب فيه الفساد، فذلك غزو لا يرجع صاحبه كفافا».
وعلى الرغم من كثرة هذه البراهين وسطوعها، فإن العلماء الآخرين في العالم الإسلامي لم يفتحوا أفواههم بنقد ذلك البيان المرسل الذي يترتب عليه دم وقتل.. وهذا خطأ جسيم يكاد يرتقي إلى مرتبة الخيانة من حيث إنه كتمان ما يجب أن يعلن، ومن حيث إنه تأخير البيان عن وقت الحاجة.
يضم إلى هذا الخطأ الجسيم خطأ يمس العقيدة نفسها.. فتنظيم الجهاد وتحديد صلاحياته انتظمته مباحث العقيدة عند الأئمة الأربعة: أبي حنيفة، ومالك، والشافعي، وأحمد بن حنبل.
فكلهم نص على أن «الجهاد لا يجب ولا يجوز إلا خلف إمام: برا كان أو فاجرا».
ويلحظ أن هذه العبارة وردت بألفاظها في «الطحاوية» التي ألفها الفقيه الحنفي الكبير الإمام أبو جعفر الطحاوي.. ووردت بالألفاظ ذاتها مقدمة في «الرسالة» التي ألفها الفقيه المالكي الكبير «القيرواني»، ووردت بالألفاظ ذاتها في كتب عديدة ألفها أئمة شافعية مثل النووي وابن حجر إلخ.. ووردت بذات اللفظ في عقيدة الإمام أحمد بن حنبل التي حررها العلامة اللالكائي مثلا في «أصول عقيدة أهل السنة والجماعة».