فاضل السلطاني
محرر الثقافة والكتب في «الشرق الأوسط» منذ عام 1997. نشر عدة كتب شعرية وترجمات. وفي الدراسات له «خمسون عاماً من الشعر البريطاني» و«الأرض اليباب وتناصها مع التراث الإنساني». وأصدر بالانجليزية «فيليب لاركن شاعراً منتمياً» و«ثلاثة شعراء محدثون». مُجاز في الآداب من جامعة بغداد، وحاصل على درجة الماجستير في الأدبين الأوروبي والأميركي من جامعة لندن.
TT

شعراء «داعش» الرومانسيون!

هل تريد أن تفهم المتطرفين؟ اقرأ شعرهم! هذا ما تنصحنا به دراسة مطولة نشرتها مجلة «نيويوركر» الأميركية في عددها الأسبوعي الصادر في الثاني من هذا الشهر بعنوان «خطوط المعركة». ودعك عزيزي القارئ من كل شيء آخر: عمليات القتل الجماعي، وقطع الرؤوس، وذبح البشر وحرقهم أحياء، و«جون الذباح» واستعباد النساء في الموصل والرقة فهي لا تعبر، حسب منطق الدراسة، عن حقيقة المتطرفين فعلا، بل ابحث عن الحقيقة، الحقيقة كلها، في شعرهم. الدراسة الغريبة هذه كتبها روبن كروسويل، وبيرنارد هيكل. والرجلان ليسا غريبين عن المنطقة. فالأول هو مساعد بروفسور في جامعة ييل، ومحرر الشعر في مجلة «باريس ريفيو»، وهو مهتم بالتاريخ الثقافي لمنطقة الشرق الأوسط. وسبق له أن ترجم رواية لصنع الله إبراهيم، وألف كتابًا عن أدونيس. أما الثاني، فهو من أصل لبناني، وهو الآن بروفسور دراسات الشرق الأدنى في جامعة برينستون. وجامعتا «ييل» و«برنستون» هما من أهم الجامعات العالمية. أما «نيويوركر» فهي، كما هو معروف، المجلة الأكثر انتشارا ليس فقط بين المثقفين الأميركيين، بل حتى في أوساط المثقفين خارج أميركا.
من هنا، تأتي خطورة هذه الدراسة وتأثيرها الذي قد يفوق كل ما فعلته ماكينة القاعدة و«داعش» الإعلامية معًا.
ما هي سمات هذا الشعر، إذا سميناه شعرا تجوزًا؟ إنه بالنسبة لكاتبي المقال «شعر رومانسي، نقي، كوني، رؤيوي، لا يعترف بالحدود، التي صنعها الاستعمار، وهو الأكثر تعبيرا عن عقيدة المتطرفين».
ولكي يثبتا ذلك، يبدآن المقالة بـ«قصيدة» لشاعرة الرقة السورية، المكناة «أحلام النصر»، زوجة أحد قادة «داعش»، القاعدي السابق، أبو أسامة الغريب، والملقبة بـ«شاعرة الدولة الإسلامية». والغريب أن الكاتبين، على الرغم من مقدمة طويلة تحدثا فيها عن أهمية الشعر في المجتمع العربي، باعتباره صوت المجتمع، وديوان العرب، منذ الجاهلية، مرورا بالعصر العباسي، وصولاً إلى العصر الحالي، وبرنامج «شاعر المليون»، يجهلان الشعر العربي تماما. إنهما، مثلا، يقولان عما تكتبه «شاعرة داعش» - يتحدثان هنا عن «ديوان» لها يضم مائة وسبعين قصيدة باسم «وهج الحقيقة - بأنه «شعر مكتوب حسب الأوزان الشعرية العربية الكلاسيكية»، ويتضمن تركيبا مخادعا، وإيقاعا غير مألوف - كذا - أي وزن و«إيقاع غير مألوف» في هذا الكلام الساذج، وكيف اعتبره شعرًا أكاديميًا مختصًا بالأدب ورئيس تحرير مجلة شعرية:
أخيرا ربنا كتب السماحا/ وقد صافحت يا صحبي السلاحا
وقد عشت الخلافة والمعالي/ وأحسست الهناء والانشراحا
ستبقى دولة الإسلام دوما/ بفضل الله تمتشق النجاحا
ينتقي الكاتبان ما يخدم افتراضهما الخاطئ عن «رومانسية ونقاء» شعراء القاعدة و«داعش»، فيختاران من أحلام النصر قصيدة عن الثورة السورية، قبل أن تتحول إلى «شاعرة داعش»، وأخرى عن تحرير الموصل، ويتجاهلان ما تكتبه مثلا عن رغبتها بتفجير رأس كافر قريبا! «وحسنا أن أنحر علجا مرتدا/ ياللروعة والحماس»!
ويذهب كاتبا المقال أكثر من ذلك، فيقرران أن القاعدة والحركات الإسلامية الأخرى أنتجت كما ضخما مما يسميانه الشعر. وعلى رأس قائمة الشعراء أسامة بن لادن نفسه، وهو استنادا إليهما «الأكثر تأثيرا»، ليس بسبب قيادته للقاعدة، وأفعاله الإرهابية الشنيعة، بل لمعرفته الواسعة بفنه، ويقصدان، مرة أخرى، فن الشعر، وليس فن الإرهاب. ويخصصان مجالا واسعا لتحليل قصيدته الحوارية مع ابنه عن الارتحال الدائم، والانتقال من أرض لأخرى، بين الوديان والجبال، إلى الحد الذي نسى فيه الابن قبيلته، وأولاد عمومته.. وحتى الإنسانية!
بن لادن هنا وغيره من الـ«المتطرفين» مجرد شعراء جوالين، يهيمون في الصحاري والوديان، على غرار شعراء الترابادور الإسبان في القرن الثاني عشر، مضحين بكل شيء بحثا عن الحقيقة، وليسوا إرهابيين دوليين تسببوا في قتل الآلاف من البشر الأبرياء. يريدنا الكاتبان أن نتجاهل كل ذلك فـ«حقيقة المتطرفين» تكمن في شعرهم الرومانسي الرقيق، وليس في أفعالهم. هل هي مجرد نظرة استشراقية أخرى، تعيد إنتاج أسوأ تقاليد الاستشراق الذي كرس، عبر الكلمة والصورة وعلى امتداد تاريخ طويل، تصورا ساذجا عن الشرق والشرقيين في المخيال الغربي، من الجسد إلى العنف؟ ثم، كيف سمحت مجلة عريقة رصينة مثل «نيويوركر» بنشر مثل هذه الدراسة المضللة، التي أقل ما يقال عنها إنها تحاول، عبر الشعر!، أن «تجمل» أفعالا قلما شهد العصر الحديث نظيرا لها في بشاعتها وهولها.