تشابه بيننا الحديث مفعماً بالأسى، عن الغياب السوري فيما يجري من تطورات في الإقليم، ومن ترتيبات لا بد قادمة لرسم خريطة جديدة للتحالفات والاصطفافات فرضتها تداعيات الحرب في أوكرانيا وربما دشنتها زيارة الرئيس الأميركي للمنطقة، كما حمل حديثنا بعض التحسر، وإن بدرجات مختلفة، على ماضٍ كانت دمشق تبدو فيه نافذة إقليمية رئيسة، وأشبه بقبلة لزيارات المسؤولين، لا يقوم محور عربي بمعزل عنها، وبيدها عدد من خيوط الحل والربط، لتقرير شروط استقرار المنطقة، بينما هي تهمل اليوم شر إهمال، حتى في مفاوضات، طالما كانت معنية بها، كترسيم الحدود بين لبنان وإسرائيل!
لكن بين الأسى والتحسر بدا الخلاف واضحاً في عرض أسباب ما آلت إليه سوريا ودورها في الإقليم بعد عشر سنوات من صراع دامٍ شهد صوراً فظيعة من انفلات العنف والقتل والتدمير والتشريد.
كانت مقارنة صديقي بين المأساة التي وصلنا إليها، وبين موقع سوري وازن، ودور خارجي نافذ في ظل استمرار الديكتاتورية والفساد، تفضح ميله للخيار الثاني، وكأنه، يحمّل ضمناً، إنْ بحسن نية أو بسوء نية، ثورة السوريين المسؤولية فيما حصل من ضعف وتشتت واحتلالات، وتالياً من هذا الغياب السوري عن المشهدين العربي والإقليمي.
بداية ربما لا يريد صديقي أن يرى، في زحمة الأحداث الراهنة، أن ثورة السوريين ليست هي من شاغل النظام ودفعه للانكماش عن حماية نفوذه الخارجي، بل الأصح أن الوزن الإقليمي السوري بدأ بالتراجع قبل أن تنهض الثورة، وكان انحساره سابقاً لها جراء تنامي تدخلات الآخرين المباشرة في تقرير شؤون المنطقة، ربطاً بتداعيات الاحتلال الأميركي للعراق وتوافق المصالح الغربية على تخليص النظام دوراً خارجياً عانوا منه كثيراً، ربما بدافع انعدام الثقة به نتيجة تجربة طويلة ومريرة معه، وربما لانقلابه على غير فرصة أعطيت له لم يثبت فيها رغبة صادقة في إعادة إنتاج موقعه وحضوره الإقليمي عبر التكيف مع ما حصل من مستجدات عربية وعالمية، بل أبدى إصراراً لافتاً على الطرائق العسكرية نفسها والعقلية الأمنية ذاتها في فرض هيمنته وتأكيد دوره، فأضاع خيار الشراكة مع الاتحاد الأوروبي، وخلق مناخاً متوتراً مع بعض الأطراف العربية، عزز ذلك تواتر ردود فعل مجتمعات الجوار تجاه ظواهر سلبية خلفها نهجه المؤذي والمتواطئ بشكل سافر مع مرامي الهيمنة الإيرانية، ما شجّع التعاضد لكف يده عن الوضع اللبناني، وإجباره على سحب جيشه من هناك بعد اغتيال رفيق الحريري.
ما سبق يتطلب الجرأة في إشهار المسؤولية الأساس للسلطة السورية فيما حل بنفوذ إقليمي جاهدت لبنائه سنوات، عند توسلها منطق القوة والغلبة والإرهاب لتأكيد الدور الخارجي على حساب صحة الوضع الداخلي وعافيته، ليغدو الأخير ضحية هذا النهج ويصبح مع الزمن في أسوأ أحواله، قهراً وفساداً وتمييزاً، ما حفّز الشعب السوري على النهوض وشجع أكثريته المهمشة على كسر حاجز الخوف والمطالبة بحقوقها وحريتها وكرامتها.
لا جدوى من الحوار مع البحارة ما دام الربان موجوداً... هي عبارة تدل على نتيجة استجرار النظام لأطراف خارجية للحفاظ على سلطته، وما ترتب على ذلك من ارتباط لسياسته بالسياستين الإيرانية والروسية، وتالياً انحسار مقدرته على اتخاذ قرار مستقل إن تعارض مع رغبة داعميه، طهران وموسكو، أو مع إحداهما على الأقل، والقصد أنه ليس من جدوى أو فائدة لأخذ موقف دمشق ورأيها بعين الاعتبار في الحسابات الإقليمية والعالمية، ما دامت روسيا حاضرة وما دامت إيران هي الأقدر على ضبط القوى المؤثرة باستقرار المنطقة، كـ«حزب الله» وحركة «حماس» وغيرهما، فكيف الحال مع تعدد الاحتلالات وحالة الدمار والضعف التي خلفها العنف السلطوي المفرط، ثم ما يثار عن تراجع فاعلية روسيا بسبب انشغالها بالحرب في أوكرانيا لحساب تقدم سياسة إيرانية تستند إلى سلطة متشددة، هي الأقرب لـ«الحرس الثوري»، غرضها مراكمة القوة العسكرية بما في ذلك النووية، وتسعير الصراع المذهبي لتوسيع نفوذ بلادها في المنطقة واستعادة ما تعتبره حقاً تاريخياً!
القول بأن سوريا باتت عبئاً ثقيلاً وفقدت أهميتها ودورها، يحمل الكثير من الحقيقة ويأخذنا إلى ما وصل إليه المشهد السوري اليوم، ليس فقط من زاوية حجم الخراب والقتل والتشرد وتفاقم أزماته المتنوعة، أو من زاوية حال نظام مرتهن وعاجز عن لعب أي دور إقليمي مستقل، وإنما أيضاً من زاوية طابع القوى السورية المؤهلة لتلقي أي دور خارجي نشط وتفعيله، وإذا استثنينا قوات سوريا الديمقراطية بخصوصية تركيبتها الكردية، فقد أثبتت التجربة أنه ليس لدى المعارضة طرف وازن وذو صدقية يمكن الركون إليه والتعاون معه لإعطاء قيمة للموقع السوري ودوره، فبعض أطرافها بات يرتهن لدور أنقرة وحساباتها وبعضها الآخر يدور في فلك موسكو وتفتنه الشعارات الآيديولوجية العتيقة.
ولا يغير الحقيقة السابقة، بل ربما يؤكدها، اكتفاء مختلف الأطراف باستخدام الملف السوري، على هزالته، للتفاوض والابتزاز على حساب معاناة أهله، وتالياً استسهالهم توظيف تلك المحنة، كورقة مساومة ومقايضة لانتزاع التنازلات، من هذه القناة يمكن النظر إلى الربط الخفي والخطير بين الوضع السوري والاتفاق النووي مع طهران في رهان غربي بأن يشكل غض النظر عن التمدد الإيراني في سوريا حافزاً لها للتعاون، ومن القناة ذاتها يمكن النظر إلى قرار موسكو تعطيل اجتماعات اللجنة الدستورية ما دامت تقام بجنيف للضغط على موقف حكومة سويسرا من الحرب في أوكرانيا، وأيضاً إلى موقفها في مجلس الأمن بمنح فرصة أخيرة، عمرها ستة أشهر، قبل استخدام حق النقض «الفيتو» لإغلاق المعبر الأخير الذي تمرر عبره المساعدات الأممية للملايين من المحتاجين والمتضررين السوريين.
واستدراكاً، يصح القول إن ما بني على رمال لا بد أن تذروه الرياح، وإن ما تم تحصيله خلال العقود المنصرمة من نفوذ سوري إقليمي، بمنطق القوة والغلبة وبالوسائل العسكرية والأمنية، مصيره الزوال، ما دام لم يقم على تنمية داخلية عادلة وعلاقات إنسانية كريمة تنتج مجتمعاً صحياً ومعافى، جديراً بالاحترام والتقدير من قبل الآخرين، ولنتذكر ما حل بالاتحاد السوفياتي ونفوذه العالمي، وتلك الثمار المُرة التي قطفتها القيادة الأميركية في العراق وأفغانستان!
8:2 دقيقه
TT
الغياب السوري!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة