خلال زيارته الأخيرة لكوريا الجنوبية واليابان، أكد الرئيس الأميركي، في جوابه على احتمال التدخل عسكرياً لردع الصين، أن سياسة بلاده تجاه تايوان المعروفة باسم «الغموض الاستراتيجي» لم تتغير، ما يشجّع على التساؤل، على مشارف زيارة الرئيس نفسه إلى الشرق الأوسط، عن الاستراتيجية التي تحكم السياسة الأميركية وتوجهاتها في منطقتنا، فلا غموض ولا وضوح ولا مسار منسجم وحاسم، بل جملة من المواقف الملتبسة أو المرتبكة والمترددة وأحياناً المتناقضة، من دون بذل أي جهد أو عناء لإيضاح أسباب ذلك التناقض أو الارتباك أو التردد.
صحيح أننا عرفنا في مطلع القرن، استراتيجية أميركية واضحة تجاه منطقتنا حملت عنوان «الشرق الأوسط الكبير»، كان غرضها نشر الديمقراطية وتنمية المجتمعات وتطويرها متوسلة ما عرف بالفوضى الخلاقة لفرض الحرية والمعرفة وتمكين النساء، وبدت بمثابة الرد على ماضٍ طويل من سياسة أميركية لجأت إلى مساندة ديكتاتوريات عسكرية موالية على حساب تطلعات الشعوب وحقوقها في الحرية والعيش الكريم، وصحيح أن القيادة الأميركية التي فقدت الكثير من حيويتها الخارجية بسبب ما عانته في العراق وأفغانستان، قد حوّلت سياستها من النزعة الهجومية التدخلية في المنطقة، نحو الإحجام والانكفاء، والميل للقيادة من الخلف، وفي أحسن الأحوال، اللجوء لاستخدام القوة الناعمة والضغط المرن من دون أن تصل إلى تورط يتطلب جهداً وتكلفة يعمقان أزماتها، لكن الصحيح أيضاً أن هذا التحول لم يرقَ قط إلى مصاف استراتيجية متكاملة ومنسجمة، بدليل التباين الصارخ في الاهتمامات والسياسات التي اتبعها الرؤساء الأميركيون المتعاقبون في الشرق الأوسط، وسهولة تبدل اجتهاداتهم ومواقفهم تجاه أحداثه، حتى بات من الصعب أن يحدد المرء ما تريده الولايات المتحدة من أهم الأطراف الفاعلة في المنطقة، ومن مسارات الصراع في مختلف المجتمعات المضطربة، في سوريا ولبنان والعراق واليمن وليبيا وفلسطين وغيرها، ما جعل المنطقة أشبه ببقعة ضبابية مبهمة وجعل عدم اليقين كما عدم الاستقرار هما المناخ السائد في قراءة الأحداث السياسية والاقتصادية والعسكرية ومتابعتها.
والحال، لا ينسى السوريون كيف أن واشنطن التي كررت الدعوات لرحيل النظام وحمّلته مسؤولية استمرار العنف، وشددت العقوبات الاقتصادية والدبلوماسية عليه، وحذرت من عقاب رادع في حال استخدام السلاح الكيماوي، هي ذاتها التي اكتفت، بعد تكرار استخدامه السلاح الكيماوي، بإدانات صاخبة وبضربة عسكرية خجولة لرفع العتب، وهي نفسها التي مررت تدخل موسكو العسكري واكتفت بالدعم اللفظي لقوى الثورة، بينما كانت ترفع الحماية في غير مكان عن جماعات المعارضة المسلحة وتتركها لقمة سائغة للفتك والتنكيل، ولا يختلف الأمر كثيراً عند النظر لسياسة واشنطن تجاه طهران، إنْ من قناة قصر التعاطي على معالجة انتهاكاتها النووية ومحاولة استرضائها وتلبية اشتراطاتها في عهد الرئيس أوباما لتشجيعها على توقيع الاتفاق النووي من دون اهتمام إن أفضى ذلك إلى تغذية مراميها الأنانية والتوسعية، وإنْ من قناة اتباع سياسة حافة الهاوية من قبل الرئيس ترمب ربطاً بتشديد الحصار والعقوبات الاقتصادية ومنع تدفق الأموال لمحاصرة اندفاعاتها، وإنْ من قناة عودة الرئيس بايدن إلى تبني سياسة القفازات الحريرية وتفضيل ممارسة الضغوط الهادئة على طهران بغرض وقف برنامجها النووي مقابل إلغاء العقوبات، من دون اهتمام بحقائق راكمتها التجربة تقول إن إيران كانت دائماً تخل بواجباتها تجاه الاتفاقية النووية نفسها ولم تلتزم مستوى تخصيب اليورانيوم، بل وأفادت من غطاء الاتفاقية لتطوير أسلحتها الباليستية والأهم لتعزيز تمددها وسطوتها ونفوذها في الإقليم.
مثلما يصعب، بعد الحرب في أوكرانيا، معرفة إن كان ثمة مراجعة نقدية أو موقف جديد لقادة واشنطن تجاه المنطقة، يحررهم من سياسة الإحجام والانكفاء ويخفف غلو رغبتهم في التخلي عن دور مبادر وناجع، إنْ لأنهم يجدونه عبئاً يثقل كاهلهم، أو بسبب خيار منح الأولوية لآسيا وحوض الباسيفيك، ثم لأوروبا، بغرض محاصرة الصعود الصيني والحد من التمدد الروسي، يصعب أيضاً، معرفة إن كانت إدارة البيت الأبيض قد لمست أخيراً ما خلفه تخميد دورها في المنطقة من تبدل بتوازنات القوى، حين سعت روسيا والصين لملء الفراغ، على الصعد الأمنية والسياسية والاقتصادية والتجارية، لنقف أمام مشهد تحول فيه الشرق الأوسط إلى ركيزة جغرافية، وقيمة مالية وتسويقية مهمة لمشروعات الربط الصيني، ولمحاولات بكين خلق نماذج اقتصادية تشبهها بديلاً عن النموذج الغربي، وأيضاً أمام مشهد انتعاش طموحات قيادة الكرملين التوسعية ومحاولاتها تعزيز علاقاتها في الإقليم، مع الركائز التقليدية والقوى الصاعدة على حد سواء، ما يعني عيانياً، صعوبة معرفة إن كان المشهد العالمي والإقليمي الراهن، قد حفّز واشنطن لإعادة التفكير بمدى حاجتها لمضاعفة الجهود لتصحيح الاختلالات المستجدة بميزان القوى في المنطقة، ليس فقط الاقتصادي بل العسكري أيضاً، ما يفسّر محاولة إحياء تحالفاتها مع أصدقائها التاريخيين، وربما ما يثار عن رضاها عن تشكيل حلف «ناتو عربي» يقطع الطريق على اجتهادات موسكو لبناء نظام أمن جماعي شامل في الإقليم والخليج العربي.
صحيح أن مروحة أهداف الولايات المتحدة لم تتغير في ضمان أمن المنطقة واستقرارها وحرية التجارة وتصدير النفط، ومكافحة ظهور الجماعات الإرهابية ودعم إسرائيل، وصحيح أن دور الولايات المتحدة لا يزال وازناً وحاسماً جراء ما تملكه، من قوة نافذة، سياسياً وعسكرياً واقتصادياً، تضعها في موقع اللاعب الأول وأحياناً المقرر لمصير الكثير من الصراعات الإقليمية والأزمات العالمية، لكن الصحيح أيضاً أن سياسة واشنطن لا تحكمها الرغبات والأمنيات بل تستند إلى المصالح وموازين القوى وضغط الرأي العام ومواعيد الانتخابات، ما يثير الشكوك والقلق حول المستقبل إن غابت استراتيجية واضحة للإدارة الأميركية تحترم وزن المنطقة ومصالح شعوبها، وإن بقيت تتحكم في سياسات البيت الأبيض ومواقفه الخلافات المزمنة بين مراكز قوى تتفاوت حساباتها، كما تتباين فيما تتوسله من طرائق في إدارتها للمصالح الأميركية.
فهل يشتد القلق وتزداد الشكوك من استمرار غياب تلك الاستراتيجية، أم يحمل الرئيس بايدن في جعبته رؤية جديدة لدور فاعل في المنطقة تحكمه التداعيات النوعية للحرب في أوكرانيا، وتعثر مفاوضات الملف النووي مع إيران، وتفاقم ما تكابده المجتمعات العربية المضطربة؟
TT
عن غياب استراتيجية أميركية للمنطقة!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة