جمال الكشكي
رئيس تحرير مجلة «الأهرام العربي». عضو مجلس إدارة مؤسسة الأهرام. عضو مجلس أمناء الحوار الوطني. عضو لجنة تحكيم جائزة الصحافة العربية. عمل مذيعاً وقدم برامج في عدة قنوات تليفزيونية.
TT

دوافع زيارة بايدن

الشرق الأوسط في انتظار الوافد من البيت الأبيض. حالة ترقب تأتى في توقيت مغاير. معادلة دولية وعالمية جديدة. كلام كثير يدور حول مصير «القطب الواحد»، واحتمالية تعدد الأقطاب. سباق النفوذ على أشده. أمواج الصراع تأتي هادرة من البحر الأسود، وبحر البلطيق، والإقليم الأوراسي.
ساكن الكرملين لا يزال يحلم بإعادة بناء إمبراطورية بطرس الأكبر وكاترينا العظيمة، وسيد البيت الأبيض لن يقبل التنازل أو النقاش حول لقب «شرطي العالم». دخان كثيف يلفّ أرجاء الكرة الأرضية، انبعاثات اقتصادية خطيرة خلّفتها الحرب الروسية - الأوكرانية، وسبقتها لكمات أكثر قسوة من جائحة «كورونا». لم يلتقط العالم أنفاسه حتى الآن.
الشرق الأوسط، وفي القلب منه المنطقة العربية، له حساباته الخاصة. الفرصة مواتية لأن يقول العرب كلمتهم وبقوة في اختبار الحرب الدائرة، حيث سجلت الدول العربية حضوراً قوياً وزخماً غير مسبوق، يمكن البناء عليه، والجلوس في مكانة متقدمة من صناعة القرار العالمي.
الأيام المقبلة كاشفة؛ الرئيس الأميركي جو بايدن يرتّب أفكاره وملفاته تجاه المنطقة. ونحن العرب أيضاً جاهزون؛ لدينا أولوياتنا ومصالحنا التي تبدأ وتنتهي عند مصالح الشعوب العربية. الزيارة الأميركية هذه المرة لا تشبه الزيارات السابقة لساكن البيت الأبيض، فقد جرت في النهر مياه كثيرة؛ الظروف مختلفة، الشعوب التي نجت مما يسمى الربيع العربي، تعلمت دروس الاستقرار، واستدعاء الوحدة من قاموس الأمن الجماعي العربي. القادة العرب يعرفون جيداً خطورة التحديات التي تمر بها المنطقة... الأيام الماضية أكدت ذلك؛ قمم عربية متلاحقة في جميع الأرجاء. ترتيب الأوراق العربية مطلب يفرضه التوقيت وضرورة لا يمكن إغفالها. نتائج هذه القمم العربية تؤكد أن هناك صياغة عربية واضحة للمطالب والأهداف التي تتواكب مع هذه الأحداث، فهذه اللقاءات بين القادة العرب نجحت في توحيد الرؤية والاستراتيجية العربية تجاه القضايا والملفات الطارئة والمتوقعة، بما فيها الموقف حول مستقبل العلاقات مع الولايات المتحدة وكل القوى الدولية الأخرى. الموقف العربي بات واضحاً في مبادئه التي تقوم على الانطلاق من المصالح الوطنية ومصالح الشعوب في تحديد مساحات التعاطي مع القوى الدولية.
المعلومات تقول إن التجهيزات الدائرة الآن في البيت الأبيض، بخصوص جولة بايدن تضع في حساباتها المستجدات بشأن الأولويات العربية.
وهنا سؤال يطرح نفسه: ما دوافع جولة بايدن؟ السؤال منطقي، لا سيما أن هذه الجولة لم تكن مدرجة على جدول البيت الأبيض، منذ وصول بايدن للحكم في 20 يناير (كانون الثاني) 2021، ربما تكون أهمية الدوافع هي التي قادت الرئيس الأمريكي لأن يقوم بجولته الرابعة إلى الشرق الأوسط، بعد جولته الأولى إلى أوروبا في يونيو (حزيران) 2021، وجولته الآسيوية في مايو (أيار) الماضي، وحضوره قمة الدول الصناعية السبع الكبرى، وقمة حلف «الناتو» في يونيو الماضي.
أول هذه الدوافع، أن واشنطن تمر بحالة غير مسبوقة من عدم اليقين الاقتصادي نتيجة ارتفاع معدلات التضخم لأعلى مستوى له منذ ديسمبر (كانون الأول) عام 1981، وهو ما انعكس بشكل خطير على شعبية الرئيس جو بايدن والحزب الديمقراطي الأميركي الذي يخشى فقدان الأغلبية الهشة في مجلسي النواب والشيوخ عندما تُجرى انتخابات التجديد النصفي في نوفمبر (تشرين الثاني) المقبل، وهذا يتزامن مع نتائج استطلاعات الرأي التي قالت جميعها إن شعبية الرئيس بايدن لا تتجاوز نسبة 28%، وهي أقل شعبية لرئيس أميركي في الأعوام الأربعين الأخيرة.
الدافع الثاني، يتمثل في عدم سيطرة الرئيس بايدن على أسعار الطاقة والمحروقات بعد أن تجاوز سعر غالون البنزين 5 دولارات، وهو ما يساوي ضعفي سعره عندما دخل بايدن البيت الأبيض قبل نحو عام ونصف العام، ولم يعد خافياً على أحد أن البيت الأبيض يعيش تحدي الطاقة الذي يمثل عنصراً رئيسياً في حياة المواطن الأميركي.
أما الدافع الثالث، فيتمحور حول رغبة الرئيس بايدن في استعادة قوة وزخم العلاقات العربية - الأميركية أحد أضلاع مثلث التحالفات الأميركية الخارجية، بجوار التحالف مع أوروبا، ودول شرق وجنوب شرقي آسيا، فالدوافع تقول إن واشنطن تخشى خروجها من حسابات الشرق الأوسط لصالح قوى منافسة في معادلة النظام العالمي الجديد، ومن ثم فإن البيت الأبيض يدرك ذلك ويعمل على استعادة الحيوية للعلاقات الأميركية في المنطقة، بعد أن تم الترويج لنظرية الخروج من الشرق الأوسط من الديمقراطيين أنفسهم إبان تولي هيلاري كلينتون وزارة الخارجية الأميركية.
السؤال الآخر يدور حول المنافع والمكاسب التي يجنيها الإقليم العربي من هذه الزيارة؟
للمنطقة العربية مصالح كبيرة وعريضة في مقدمتها استعادة المنطقة العربية أهميتها كإقليم فاعل وحيوي في استراتيجية الأمن القومي الأميركي التي ركّزت خلال العقد الماضي على منطقة «الإندوباسفيك». فخلال السنوات العشر الماضية جرى حديث حول تراجع قيمة الغاز والنفط العربي في معادلة الطاقة العالمية، ولكن الآن اختلفت المعادلة وأدركت واشنطن أن حلول الطاقة -كما كانت في الماضي- تبدأ وتنتهي من المنطقة العربية... هذه واحدة، أما المكسب الثاني، فيتعلق بالنفوذ «الجيو اقتصادي»، خصوصاً أن العالم الآن يعيد اكتشاف أهمية المنطقة العربية، كحلقة وصل مهمة وحيوية في سلاسل الإمداد، بين آسيا والغرب، وهذه أهم التحديات التي يسعى العالم لتجاوزها من أجل تحقيق تأمين الطاقة والأمن الغذائي، وسهولة ويسر سلاسل الإمداد.
وسط هذه الدوافع الأميركية، والمكاسب العربية، نستطيع القول إن هذه الزيارة ستكون فارقة، ليس فقط في تاريخ العلاقات العربية - الأميركية، بل إنها زيارة فاصلة لمستقبل النظام العالمي الجديد.