رغم مرور سبعة وسبعين عاماً على إسكات أصوات المعارك التي طالت دولاً عدة خلال الحرب العالمية الثانية (1939 - 1945)؛ فإن انعكاسات «نظرية المنتصر» في تلك المواجهة الكونية لا تزال تمدُ تأثيراتها على مشهد الأمن والسلم الدوليين حتى اللحظة الراهنة.
وصحيح أن تشكيل «منظمة الأمم المتحدة» التي تحتضن الآن 193 دولة كان يُراد به بناء مشروع سياسي يعتمد على مجلس الأمن كمسؤول عن حفظ الأمن والسلم الدوليين؛ إلا أن استمرار بقاء حق النقض «الفيتو» بيد الأعضاء الدائمين بالمجلس (الولايات المتحدة، وبريطانيا، وروسيا، والصين، وفرنسا) أفقد المنظمة الأممية قيمتها وديمقراطيتها. ولا يمكن تصور أن هناك دليلاً أكثر وضوحاً على فقدان الدور وغياب البوصلة المؤدية إلى أهداف تلك المؤسسات الدولية من هذه اللحظة التي يعيشها العالم راهناً، إذ تنخرط ثلاث دول (أميركا، وروسيا، والصين) على الأقل من حائزي «الفيتو» في الصراع العالمي، ما يشير إلى غياب العدالة الدولية في داخل المؤسسات المعنية أصلاً بتحقيقها.
ولعل أسوأ الأمثلة على استخدام حق الفيتو من قبل أميركا عشرات المرات دونما أي سند قانوني وأخلاقي وشرعي ضد حق الشعب الفلسطيني في الحرية والاستقلال.
كما تجسدت تلك المشكلة جلية خلال مناقشة مجلس الأمن، والجمعية العامة للأمم المتحدة بشأن الحرب الروسية - الأوكرانية، إذ تحول مجلس الأمن إلى صراع سياسي حاد حول مجمل مشاريع القرارات التي تقدمها الدول الغربية وتلك التي تقدمها روسيا الاتحادية، كما شهد التصويت في الجمعية العامة للأمم المتحدة ضغوطاً واسعة النطاق على الدول النامية بهدف استقطاب أصواتها.
وتعد الولايات المتحدة اللاعب والمستفيد الأكبر بحكم وضعيتها في النظام الدولي، حيث تحولت الأمم المتحدة ومجلس الأمن من أداتين لحفظ السلام وأمن الدول إلى عصا رعب وعقاب أميركية، بعدما أصبح واضحاً أن واشنطن تدير العالم وفق مصالحها، على اعتبار أنها تتكفل بدفع أكبر قدر من المساهمات المالية والدعم العسكري، لتتخذ من الشرعية الدولية والديمقراطية وحقوق الإنسـان غطاءً على مصالحها. وعلى سبيل المثال استخدمت أميركا «الفيتو» حوالي 45 مرة لعرقلة إصدار قرار من مجلس الأمن يدين الانتهاكات الإسرائيلية بحق الفلسطينيين.
ولقد سعت واشنطن إلى توظيف الأمم المتحدة ولا سيما مجلس الأمن لفرض معايير دولية تتسم بالمراوغة كحقوق الإنسان ومكافحة الإرهاب، وعلى نحو يتيح تكييفها وفق المصلحة الأميركية في كل حالة، وهكذا فإن سياسة المعايير المزدوجة أصبحت من سمات الأمم المتحدة، وذلك لأن مجلس الأمن لا يقوم بمهمة ما إلا إذا سمحت بذلك مصالح الولايات المتحدة.
أما روسيا، فما زالت ترى في نفسها دولة عظمى ونداً للولايات المتحدة والصين، رغم أن أهميتها الدولية تقلصت كثيراً بعد تفكك الاتحاد السوفياتي، وأصبح اقتصادها يعتمد بنسبة 65 في المائة على إيرادات مبيعات النفط والغاز، لكنها ورثت من الاتحاد السوفياتي السابق عضوية مجلس الأمن، وترسانة الأسلحة النووية، وصناعة الأسلحة، التي ما زالت تشكل مورداً مالياً لها، كما ورثت العلاقات الدولية الواسعة، خصوصاً الاقتصادية والتجارية منها.
وتستخدم روسيا عضويتها في مجلس الأمن للتأكيد على أهميتها الدولية، وخدمة مصالحها الجيوسياسية؛ فهي مثلاً تجد في عداء الدول الأخرى، كإيران وكوبا وفنزويلا، للغرب مصلحة لها، وتسعى لتأجيج مثل هذا العداء، بل وإعاقة تحسن علاقات تلك الدول بالولايات المتحدة والعالم الغربي بشكل عام، كما اتضح في مسألة البرنامج النووي الإيراني، ففي الوقت الذي تخشى فيه روسيا من إيران النووية، فإنها تخشى في الوقت نفسه من تحسن علاقات إيران بالعالم الغربي لأن ذلك سيؤدي إلى ابتعادها عن روسيا.
وقد استخدمت الصين وروسيا حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن الدولي لعرقلة العديد من القرارات التي ترتبط بشكل كبير بمصالحهما ومخططاتهما المشتركة ودعم حلفائهما، خاصة بشأن الأزمة السورية والملف النووي الإيراني والملف النووي لكوريا الشمالية.
ومنذ تأسيس الأمم المتحدة، تقدر بعض الإحصاءات أن عدد مرات استعمال حق «الفيتو» بلغ 293 مرة؛ إذ استخدمه الاتحاد السوفياتي ووريثته روسيا 143 مرة، والولايات المتحدة 83 مرة، وبريطانيا 32 مرة، وفرنسا 18 مرة، بينما استخدمته الصين 16 مرة.
ظلت فاعلية الأمم المتحدة ضعيفة من الناحية العملية منذ تأسيسها؛ إذ لم تستند هذه المنظمة إلى أي شكل من أشكال القوة الحقيقية التي تؤهلها للقدرة على التأثير في مجريات الأحداث في العالم بحيث ظلت إرادتها مرهونة بإرادة الدول الكبرى. ومن هنا فإن استغلال الدول الكبرى لهذه الوسيلة، واستخدامها من أجل تنفيذ استراتيجيتها تغلف في إطار طابع قانوني دولي، الأمر الذي يدعو إلى تقبلها طوعاً أو بالإكراه، كونها قرارات صادرة عن جهة شرعية ملزمة ينبغي تنفيذها.
وعلى ذلك فقد تعددت الدعاوى لتطوير المنظومة الأممية بما يخدم العالم بأسره، ومن المقترحات الجديدة: «عدم اقتصار عضوية مجلس الأمن الدائمة على الدول الخمس الحالية، وكذلك منح العضوية الدائمة أو الدورية لدول أخرى، وتحديد رقم معين لا يُسمح بتجاوزه لمرات استخدام (الفيتو) لكل دولة خلال سنوات محددة».
إن إنشاء «المنظمة الدولية» في أعقاب الحرب العالمية الثانية كان لإيجاد منظومة السلام العالمية وحل المشكلات بين الدول من خلال الحوار وتطبيق الميثاق على الدول جميعها، أما مسألة الهيمنة من قبل القوى الكبرى فقد خلقت وضعاً مربكاً للأمم المتحدة، وفي حال استمراره فإن مصير المنظمة الدولية في المشهد الأخير (وربما باقتناع خفي من القوى الكبرى) هو أن تبقى الأمم المتحدة منتدى سياسياً حوارياً، ويظل مجلس الأمن رمزاً لهيمنة القوى الخمس.
إن تداعيات الخلل في المنظومة الدولية على الدول الأخرى، خاصة النامية منها، يفرض على الدول متوسطة القوى والتي تتميز بنفوذها الإقليمي، إمكانية تشكيل كيانات موازية في إطار تحالفات قوية، تبرز من خلالها تأثيرها، بحيث تصبح رقماً في المعادلة الدولية يعتد به في أي قرارات مستقبلية تساهم بشكل مباشر في تشكيل النظام الدولي.
* وزير خارجية مصر الأسبق
7:44 دقيقه
TT
تنافس الدول الكبرى تهديد للسلم والأمن
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة