لم تكن روسيا تتوقع مثل هذه المقاومة العسكرية القوية على الأرض، ولا ذلك الإصرار والتضامن الذي أبداه الغرب، ولا العقوبات التي فرضها عليها.
ومع أن روسيا حطمت مؤخراً دفاعات مصنع «آزوفستال» في ماريوبول، وترك الجنود الأوكرانيون الأرض، إلا أن الحرب لم تنتهِ بعد.
يُنظر إلى بوتين عالمياً على أنه المعتدي. وبصفته القائد الذي أمر باجتياح أوكرانيا، فإنه يتحمل المسؤولية الكاملة عن المعاناة والدمار، حيث تشير الصور التي لا تزال تظهر بين الفينة والأخرى إلى أن روسيا قد تكون ارتكبت جرائم حرب في أوكرانيا.
كانت للاجتياح الروسي تداعيات تتجاوز حدود أوكرانيا، تركت آثارها على الحياة بصور عدة. فالغذاء العالمي وأمن الطاقة باتا في خطر، والأسعار آخذة في الارتفاع في كل مكان، والعديد من الحكومات باتت معنية بالتأثيرات الاجتماعية المحتملة.
وعطلت الحرب الصادرات الزراعية من روسيا وأوكرانيا. وكانت المناطق الجغرافية الأكثر ضعفاً، مثل الشرق الأوسط وأفريقيا، هي الأكثر تضرراً. فمصر ولبنان، على سبيل المثال، من بين تلك البلدان التي تعاني بالفعل من مشكلات، وتضررت بشدة جراء ارتفاع أسعار القمح.
وكـأن الحرب وحدها لم تكن كافية، فقد تسببت الظروف الجوية السيئة وضعف المحاصيل في صعوبات إضافية، وكان وقف الهند صادراتها من القمح لهذه الأسباب بمثابة ضربة أخرى.
وتمتلك روسيا أكبر احتياطيات الغاز الطبيعي في العالم، حيث تنتج حوالي 17 في المائة من الغاز الطبيعي العالمي. وتوفر روسيا للاتحاد الأوروبي 40 في المائة من احتياجاته من الغاز الطبيعي، و27 في المائة من نفطه. وقامت روسيا مؤخراً باستخدام صادراتها من الغاز كسلاح في الحرب. وآخر دولة ستتوقف روسيا عن إرسال الغاز إليها هي فنلندا، بحسب إعلان شركة الطاقة الفنلندية المملوكة للدولة.
ومنذ وقت ليس ببعيد، كان هناك اندفاع لشراء الغاز الروسي، والآن هناك اندفاع لتقليل الاعتماد عليه. وليس ذلك بالمهمة المستحيلة. فقد تكون هناك بدائل، لكن هناك حاجة إلى الوقت لتوفيرها، وسيكون لذلك تكلفة. وتأتي غالبية خطوط الأنابيب الحالية إلى أوروبا من روسيا. وهناك حاجة إلى خطوط الأنابيب غير الروسية، إما عن طريق بناء خطوط جديدة، أو الاتصال بخطوط أنابيب من خارج روسيا.
ويعتبر التحول إلى الغاز الطبيعي المسال خياراً آخر، لكنه أكثر تكلفة. أيضاً، يتطلب شحن الغاز الطبيعي المسال بكميات كافية عدداً كافياً من السفن والبنية التحتية ذات الصلة، مثل محطات الغاز الطبيعي المسال اللازمة لتحويل الغاز الطبيعي المسال إلى شكل قابل للاستخدام.
من الناحية الأمنية، تحول الأمن التعاوني في التسعينات إلى أمن مواجهة. فتعريف حلف شمال الأطلسي (ناتو) لما تمثله روسيا، هو أن «الأعمال العدوانية لروسيا تشكل تهديداً للأمن الأوروبي الأطلسي». فقد أشار «الناتو» إلى أنه منذ أكثر من خمسة وعشرين عاماً، عمل الحلف على بناء شراكة مع روسيا، لكنه فشل «لأن روسيا انتهكت القيم والمبادئ والثقة والالتزامات الواردة في الوثائق المتفق عليها، والتي تدعم العلاقة بين الناتو وروسيا».
ومن المتوقع أن تكون اللهجة فيما يتعلق بروسيا في قمة «الناتو» المقبلة، في مدريد في يونيو (حزيران)، وفي المفهوم الاستراتيجي الجديد أكثر مباشرة. ونتيجة لسلوك روسيا، غيرت دول عدة في أوروبا مواقفها العسكرية ومفاهيمها الأمنية. فعلى سبيل المثال، رفعت ألمانيا ميزانيتها العسكرية والإنفاق الدفاعي إلى مستويات غير مسبوقة، كما أنها ترسل أسلحة إلى أوكرانيا لمحاربة الروس. وقررت فنلندا والسويد التخلي عن حالة عدم الانحياز التي دامت عقوداً والانضمام إلى «الناتو».
وخلال الحرب الباردة، كانت تركيا والنرويج على جانبي الحدود المشتركة مع الاتحاد السوفياتي. وبعد زوال الاتحاد السوفياتي، تشارك أعضاء «الناتو» الجدد، إستونيا ولاتفيا، الحدود البرية مع روسيا (وليتوانيا وبولندا مع مقاطعة كالينينغراد الروسية). وتتشارك فنلندا مع روسيا مسافة 1340 كيلومتراً من الحدود.
وقال الرئيس بوتين إن موسكو سترد حال نشر «الناتو» بنية تحتية عسكرية على أراضي فنلندا أو السويد. لذا، فقد أعربت روسيا عن تحذيرها من انتشار قوات «الناتو» في هذه الدول، لكن ليس ضد عضويتها في الحلف. وتحت ذريعة التهديد لأمنها، ترى روسيا أن لها الحق في الموافقة أو رفض قرار الدول ذات السيادة. ورغم ذلك، عندما يتعلق الأمر بنشر وبناء قواعد خاصة بها على أرض أجنبية، في سوريا على سبيل المثال، أو عندما تجتاح دولة أخرى من دون أي استفزاز واضح، يبدو أن روسيا تتبنى المعيار المعاكس.
وقد ذكر الأمين العام لحلف «الناتو»، ينس ستولتنبرغ، مجدداً في برلين الأسبوع الماضي، بأن جميع الدول ذات السيادة لها الحق في اختيار طريقها الخاص. وتسمح المادة 10 من معاهدة واشنطن، وهي الاتفاقية التأسيسية لحلف «الناتو»، بانضمام أي دولة أوروبية تكون في وضع يمكنها من تعزيز مبادئ المعاهدة والمساهمة في أمن منطقة شمال الأطلسي. وبدأ «الناتو» بـ12 دولة في عام 1949، وبعد 8 جولات متتالية من التوسع، كان آخرها انضمام مقدونيا الشمالية في عام 2020 بلغ عدد الأعضاء 30 دولة.
وأهم جانب في عملية الانضمام هو أن جميع الدول الأعضاء يجب أن توافق عليه. لكن، كانت هناك مشاكل عرضية. فعلى سبيل المثال، منعت اليونان انضمام مقدونيا بسبب مشكلة الاسم. واستغرق الأمر من اليونان 10 سنوات للتخلي عن اعتراضها، عندما غيرت مقدونيا اسمها إلى مقدونيا الشمالية.
وهذه المرة، أعلن الرئيس التركي إردوغان عن مخاوف بلاده. وكان سبب ذلك هو دعم السويد وفنلندا للمنظمات الإرهابية. وتقول تركيا إن «وحدات حماية الشعب» هي الامتداد السوري لـ«حزب العمال الكردستاني» المدرج على قائمة المنظمات الإرهابية في جميع دول الاتحاد الأوروبي. واستقبل الوزراء السويديون ممثلين عن «وحدات حماية الشعب»، وأعلنت وزيرة الخارجية السويدية، آن ليندي، مؤخراً أن مساعدة السويد لـ«وحدات حماية الشعب» بلغت حتى الآن 210 ملايين دولار، وبحلول عام 2023 من المقرر أن يصل هذا المبلغ إلى 376 مليوناً.
وأحالت السويد وفنلندا إلى «الناتو» طلبات العضوية الخاصة بهما. وكجزء من الإجراء المعتاد، تم عرض القضية أولاً على مجلس «الناتو» على مستوى السفراء. وفي ذلك الاجتماع، قال الممثل التركي إنه ليس لديه تعليمات لإعطاء الضوء الأخضر لبدء مفاوضات الانضمام.
وقد يبدو الوضع احتكاكاً جديداً بين صفوف «العالم الغربي»، لكن تجدر الإشارة إلى أنه لا توجد تصريحات تحريضية، وأن الدول المعنية والمسؤولين يتحدثون مع بعضهم بعضاً.
ختاماً، الأوكرانيون عازمون على القتال، والغرب مصمم على تزويدهم بالوسائل للقيام بذلك. لقد أحدثت الحرب في أوكرانيا العديد من التغييرات على نطاق عالمي، وهناك بنية أمنية جديدة في أوروبا في طور التكوين. النتيجة الأكثر احتمالاً، على المدى المتوسط على الأقل، تبدو وكأنها صراع مجمد مع استمرار التداعيات العالمية.
* خاص بـ«الشرق الأوسط»
7:52 دقيقه
TT
الحرب في أوكرانيا وتداعياتها على العالم
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة