داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

لا توجد حرب لا تنتهي

معظم قراءات وتفسيرات الموقف الروسي الحالي من استمرار الحرب على أوكرانيا، أو الزحف إلى دول أخرى، أو وقف القتال بشكل كامل أو جزئي، ليست أكثر من قراءات وتفسيرات فناجين قهوة في الصباح المنعش.
والرئيس الروسي فلاديمير بوتين تعلم من عمله الطويل ضابطاً في المخابرات الروسية (16 عاماً) ألا يكشف أوراقه السرية مهما طال الزمن. ولذلك لم يقل الرجل شيئاً مجدياً عن حربه المرتبكة في خطاب يوم النصر الذي ألقاه في ميدان الكرملين يوم 9 مايو (أيار) الحالي. وهو شغل منصب مدير جهاز الأمن الفيدرالي الروسي، وهو الجهاز الذي حلّ محل هيئة المخابرات الداخلية في مفوضية أمن الدولة السوفياتية. كان الانقلاب في عام 1991 ضد الرئيس السوفياتي ميخائيل غورباتشوف علامة فارقة في مسيرة الرجل، وهو قال: «بمجرد أن بدأ الانقلاب اخترتُ على الفور الجانب الذي كنت أسير فيه». ووصف بوتين الشيوعية بأنها «زقاق مسدود بعيد عن التيار الرئيسي للحضارة». لم يؤلف بوتين أي كتاب، لكنه قال: «هناك أربعة كتب مقدسة على مكتبي لديها فكرة رئيسية واحدة هي المساواة بين الناس أمام الله، وهذه الكتب المقدسة هي الإنجيل والقرآن والتوراة وكانجور (تعاليم بوذا)».
ليس في هذه المقدمة مأخذ واحد على بوتين، وليس هذا هدف المقال؛ لكن من مهمة أي كاتب أو محلل سياسي أن يمنح القارئ خطوطاً عريضة عن حدث سياسي غير عادي مثل الحرب الروسية على أوكرانيا التي قادها الرئيس فلاديمير بوتين منذ 24 فبراير (شباط) الماضي، وليس في الأفق أي إشارة إلى موعد إخماد النار وإضاءة الأنوار.
نال بوتين عدداً كبيراً من الجوائز والنياشين معظمها عن ألعاب القوى الرياضية وبعضها سياسي، من أهمها جائزة كونفوشيوس للسلام في عام 2011 وكونفوشيوس هو أول فيلسوف صيني أقام مذهباً يتضمن كل التقاليد الصينية عن السلوك الاجتماعي والأخلاقي وخدمة الشعب، وكان لهذا المذهب تأثير عميق في الفكر والحياة الصينية والكورية واليابانية والتايوانية والفيتنامية. كما نال نيشان قائد حرب التحرير الفيتنامية هوشي منه في عام 2001 وميدالية الخدمة عديمة الشوائب ونيشان الكومنولث.
في البيان الأول عن الحرب الروسية على أوكرانيا أعلنت موسكو أنها «عملية عسكرية خاصة» وتبين، بعد ما يقارب ثلاثة أشهر، أنها ليست «عملية» من وجهة نظري، وإنما «حرب» وليست «عسكرية» وإنما «شاملة» استهدفت المدن والموانئ والعمارات السكنية ومحطات أنفاق القطارات والمطارات والمستشفيات والمدارس والقرى والمزارع والمصانع، وليست «خاصة»، وإنما يمكن أن تمتد إلى دول أخرى في أوروبا.
لا شك في أن بوتين يملك الحق في الحذر من اقتراب حلف شمال الأطلسي من حدود بلده روسيا، ولو أنه نقل هذا الحذر إلى منظمة الأمم المتحدة ومجلس الأمن والاتحاد الأوروبي ووكالة الطاقة الذرية الدولية، قبل شن الحرب لكان هناك كلام آخر في هذه السطور. ولكن أكثر ما يُلام عليه الرئيس الروسي هو أن بلاده عضو دائم في مجلس الأمن، وبإمكانه قبل الحرب استخدام حق الاعتراض ضد ما يعتبره عدواناً على أمن بلده وشعبه وتهديداً لا مسوغ له. ولكن بعد الذي صار ما صار فإن العالم ينتظر منه أن يعلن أنه يكتفي بهذا القدر من آثار الحرب. وإنه أعطى درساً لمن أراد أن يتحداه. وإنه ينبغي ألا تسمح روسيا لنفسها بإعادة معمعان أفغانستان، لأنه أمر مكلف.
ربما أستطيع أن أقول إن حرب أوكرانيا هي الخطأ الروسي بعد احتلال أفغانستان، فهل كانت موسكو تتسابق مع الأخطاء الأميركية في فيتنام وكوبا والعراق وباكستان وليبيا وسوريا و«داعش»؟
في بداية الحرب الروسية على أوكرانيا تساءل كثيرون: كم ستستغرق هذه الحرب؟ هل ستطول أشهراً أم أعواماً؟ أم يُفاجَأ العالم بحرب خاطفة تنتهي خلال أسبوع أو شهر؟ وهل يملك مجلس الأمن صلاحيات تؤهله لإيقاف الحرب؟ أم أن المجلس سيكتفي بدعوة البلدين إلى ضبط الأعصاب وبدء مفاوضات سياسية كما حدث فعلاً ثم فشلت؟
الولايات المتحدة ليست طرفاً محايداً في هذه الحرب، كما حاولت أن تبدو في المفاوضات المصرية – الإسرائيلية في عام 1979؛ فقد استعادت مصر أراضيها من إسرائيل بعد أن احتلتها في عام 1967 مقابل وثيقة سلام. لكن واشنطن ليست الآن بصدد الحياد بين روسيا وأوكرانيا، وإذا كانت كييف تقبل بالوسيط الأميركي فإن موسكو ترفض رفضاً قاطعاً، لأن واشنطن أصبحت طرفاً في الحرب؛ سواء بإرسال أسلحة إلى أوكرانيا أو إقرار عقوبات واسعة ضد روسيا.
في نظري هو أنَّ الوسطاء القادرين على قيادة مفاوضات السلام بين الجانبين أربعة أشخاص يمثلون الكتب المقدسة الأربعة التي يضعها بوتين على مكتبه، ويجب أن يكونوا مقبولين من الجانبين.
الطرف الروسي لن يقبل بأي حال وفي أي مفاوضات أن يكون الجانب المضطر لوقف الحرب. والطرف الأوكراني يريد وقف الحرب لإعادة الإعمار وعودة اللاجئين، والرئيس الأوكراني يدرك أن خلل التوازن العسكري لصالح روسيا، لكنه يرفض صيغة «الحائط المائل» بعد كل هذه التضحيات والصمود. ولموسكو شروط أولها حياد أوكرانيا الرسمي بضمان الأمم المتحدة وحلف شمال الأطلسي، وثانيها انفصال الجانب الشرقي من أوكرانيا الموالي لروسيا، وثالثها رفع جميع العقوبات الأميركية والأوروبية. وفي الوقت نفسه ينتظر الرئيس الأوكراني زيلينسكي توقيع ما يمكن تسميته «النوايا الحسنة»، وتشمل خططاً سريعة لإعادة الإعمار تسهم فيها روسيا وأميركا وبريطانيا وفرنسا ودول الجوار، وربما الصين واليابان.
بذلك يمكن أن يقول الرئيس بوتين إنه انتصر في الحرب، ويقول الرئيس زيلينسكي إنه لم يخسر الحرب. يجب أن تضرب القارة الأوروبية الغنية مثلاً للقارة الآسيوية الصاعدة، ومثلاً للقارة الأفريقية المثقلة بالديون والحروب الأهلية والاستنزاف الاستعماري المستديم.
المفروض في روسيا ألا تكون مغالية في طلباتها. وعلى الرئيس الأوكراني ألا يكون مغفلاً باستدراجه إلى حرب طويلة الأمد، وأن يفكر مرتين أو أكثر في مصير شعبه المحاصر في ملاذات دول الجوار التي سرعان ما ستتحول إلى معسكرات لاجئين، لا حول لهم ولا قوة إذا طال أمد الحرب لسنوات قادمة... وهي قاتمة.