داود الفرحان
حاصل على بكالوريوس الصحافة من جامعة بغداد عام 1968. نائب نقيب الصحافيين العراقيين لثلاث دورات، الأمين العام المساعد لاتحاد الصحافيين العرب. مدير «مركز المعلومات والبحوث» في وزارة الثقافة والإعلام العراقية. معاون المدير العام لوكالة الأنباء العراقية. المستشار الإعلامي للسفارة العراقية في القاهرة (1989 - 1990). كاتب عمود صحافي في الصحف العراقية منذ عام 1966، وكاتب عمود في مجلات: «المجلة» السعودية، و«الأهرام العربي»، و«الصدى» الإماراتية، و«اليمامة» السعودية، و«التضامن» اللندنية. رئيس تحرير صحف ومجلات عراقية أسبوعية عدة ومؤلف لعدد من الكتب.
TT

السلام الصعب... البحث عن الجزر المفقودة

يبدو أن الحرب الروسية على أوكرانيا فتحت شهية دول أخرى للمطالبة بأراضٍ أو جزر «محتلة» من قبل دول جارة. الصين تطالب بضم تايوان إلى أراضيها، وهو مطلب قديم يعود إلى الحرب العالمية الثانية. واليابان تطالب بجزر الكوريل في المحيط الهادئ بعد أن وصفتها وكالة كيودو اليابانية للأنباء بأنها جزء لا يتجزأ من اليابان، وأن روسيا احتلتها بشكل غير قانوني بعد هزيمة اليابان في الحرب العالمية الثانية، واحتلال الاتحاد السوفياتي لها. وتطالب اليابان بعودة جزر كوناشير وشيكوتان وإيتوروب وهابوماي وجزر صغيرة أخرى، وردّت موسكو بأنها تنصح طوكيو بنسيان أمر جزر الكوريل وعددها 50 جزيرة «إلى الأبد». وهي تقع بين جزيرة هوكايدو اليابانية شمالاً وجزيرة كامتشانكا الروسية، ويبلغ طولها 1300 كيلومتر، وتصل مساحتها مجتمعة إلى نحو 15 ألفاً و600 كم مربع.
وكان البلدان قد وقّعا في عام 1951 معاهدة سان فرانسيسكو للسلام التي نصت على وجوب تخلي اليابان عن المطالبة بعودة جزر الكوريل، إلا أن اليابان لم تعترف بالسيادة السوفياتية وتطالب باسترداد جزرها.
وفي تصريح حديث شبّه شينزو آبي، رئيس الحكومة اليابانية السابق، ضم روسيا الاتحادية بالقوة لشبه جزيرة القرم الأوكرانية «مثلما احتلت بالقوة أيضاً جزر الكوريل». وردّ وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بأن اليابان «لا تتعلم من العِبَر، وأنها ضمت أراضي بلدان أخرى بالقوة». وتذكر الخرائط الجغرافية أن معظم الجزر اليابانية جبلية وبركانية.
وتداعت ردود الفعل الروسية برفض التفاوض على معاهدة سلام مع اليابان، وأوقفت موسكو سفر المواطنين اليابانيين لإقامة نشاطات اقتصادية مشتركة في أرخبيل الجزر. وقد انضمت طوكيو إلى العقوبات الأميركية والأوروبية المفروضة على موسكو بسبب عملياتها العسكرية في أوكرانيا. وكان الاتحاد السوفياتي قد وقّع في عام 1956 بياناً مشتركاً مع اليابان للنظر في إمكانية إعادة جزيرتين إلى اليابان في حالة توقيع معاهدة سلام مشتركة. وأكدت موسكو أن الجزر أصبحت جزءاً من الاتحاد السوفياتي، وأن سيادة روسيا الاتحادية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي تُعَدّ أمراً لا شك فيه.
وقبيل بدء الحرب الروسية على أوكرانيا ذكرت صحيفة «سانكي» اليابانية أن روسيا أجرت مناورات عسكرية صاروخية في منطقة الجزء الجنوبي لجزر الكوريل، واحتجت اليابان على إجراء تلك المناورات. وبالمقارنة بين رئيس وزراء اليابان السابق شينزو آبي ورئيس الوزراء الحالي فوميو كيشيدا فإن الأخير يرفض أي حلول وسطية للمشكلة، وعززت حكومته التحالف العسكري مع الولايات المتحدة وأستراليا لمواجهة الصين وتهديدات كوريا الشمالية. وكان رئيس الوزراء الياباني السابق يعتقد أن إغلاق النوافذ مع روسيا لا يحل المشكلة، قائلاً: «إذا طلبتَ كل شيء دفعة واحدة فيمكن ألا تحصل على أي شيء». ويرى سياسيون يابانيون أن التخلي العلني عن الجزر الأربع لصالح روسيا «يعني الموت السياسي لأي سياسي ياباني».
وازدادت حدة الخلافات بين البلدين بعد انضمام اليابان للعقوبات الأميركية ضد روسيا، فموسكو راجعت علاقاتها الدولية في ضوء موقف كل دولة مما جرى خلال الفترة من بداية الحرب الأوكرانية في 24 فبراير (شباط) الماضي وحتى اليوم. وتؤمن روسيا بأن الوقت غير مناسب لمراجعة موضوع الجزر الأربع، لأنها تلحق أضراراً بالمصالح الروسية الراهنة. وكانت روسيا قد نشرت في ديسمبر (كانون الأول) 2021 منظومة للدفاع الصاروخي الساحلي على تلك الجزر، وأعلن أسطول المحيط الهادئ في البحرية الروسية أن هذه المنظومة تحمل تسمية «باستيون»، وستراقب منطقة المياه والمضايق المجاورة على مدار 24 ساعة. وتم نقل وإنزال معدات المنظومة وأفرادها وعتادها بواسطة سفن إنزال ضخمة مع توفير الظروف المعيشية الملائمة لعمل الجنود.
والنَّفَس الياباني، كما هو معروف، طويل كمصارعة السومو والكونغ فو والجودو والكاراتيه؛ إذ اجتمع رئيس الوزراء الياباني السابق مع الرئيس الروسي بوتين أكثر من عشر مرات قبل أحداث أوكرانيا في محاولات لحل مشكلة الجزر بتقاسمها، إلا أن المحادثات اصطدمت بتعديل روسيا لدستورها في عام 2020، الذي ينص على منع تسليم أي أراضٍ تابعة لها لأي دولة أخرى.
المشكلة التي تواجه الحكومات اليابانية أن شعبها غير متحمس لأي حرب الآن، إذ ما زالت اليابان تتذكر مآسي هيروشيما وناغازاكي عام 1945، وهي حالة تشبه الحالة النفسية والمعنوية التي اتسم بها الشعب الأميركي بعد التجربة الكورية ثم التجربة الكمبودية والهزيمة الأميركية في فيتنام. وواجه الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الابن أيضاً الحالة النفسية السيئة للشعب الأميركي ضد حرب أخرى في العراق عام 2003، خصوصاً بعد احتلال العراق وفشل القوات الأميركية في توفير الأمن في المدن العراقية والعاصمة بغداد، وتزايد نعوش الجنود الأميركيين. لكن الحالة النفسية الأميركية كانت في طريقها إلى نقطة الصفر بعد الهروب الأميركي الكبير من أفغانستان في عام 2021 في عهد الرئيس الأميركي الحالي جو بايدن. وهو ما يفسّر عدم التدخل العسكري الأميركي المباشر ضد الاجتياح الروسي لأوكرانيا والاكتفاء بالعقوبات الاقتصادية، وإرسال مساعدات عسكرية لحكومة زيلينسكي.
الحرب قرار صعب وهي الخيار الأخير وليس الأول. لقد مضت على الاحتلال السوفياتي ثم الروسي لجزر الكوريل اليابانية 77 سنة، وهناك في اليابان مَن يرى أن انتظار مرور سنوات أخرى لحل المشكلة سلمياً خير من المغامرة الفورية التي قد تتحول إلى مقامرة خاسرة.
الذين زاروا اليابان مثلي أو قرأوا عنها مثل كثير من القراء، يعرفون أن الشعب الياباني الصديق مهووس بتشكيل اللجان الإدارية والفنية والاجتماعية والسياسية. ولهذا الاعتبار تم تشكيل عشرات اللجان في المدن والأحياء لبحث معضلة جزر الكوريل وأفضل الوسائل لاستعادتها من غير حرب ولا أناشيد، وهم يطلقون لقب «الجارة العزيزة روسيا» على بلد الرئيس بوتين الذي تحتل قواته تلك الجزر الصخرية.
أليس عجيباً أن اليابان تمتلك نحو 7000 جزيرة، وتتحدث عن أربع جزر مفقودة؟