يبدو أننا نعيش اليوم في عالمنا العربي حالة من اليقظة الفكرية إزاء الخطاب الديني والموروث والعلاقة ما بين الأديان ونحن والآخر... الخ، بدليل إثارة المسائل التي تُصنَّف على أنها من المسكوت عنه وربما تكون معول هدم للتماسك المجتمعي وطرحها قد يخلق جواً جدلياً ويترتب عليه أيضاً إيجاد هوّة مع الآخر، وهو أمر خطير حيث يتم التغاضي من البعض عن ذكرها أو الاقتراب منها لحساسيتها الآيديولوجية والاجتماعية وبالتالي تجنب الحديث عنها رغم أنها تعد اجتهاداً بشرياً قابلاً للخطأ أو الصواب.
أحاديث ولي العهد السعودي النابه الأمير محمد بن سلمان اللافتة حول هذه القضايا والملفات كسرت هذا التابو ولا تزال تتردد في العالم الإسلامي وتمثل مرحلة فاصلة في إعادة تشكيل المجتمعات وفهم علاقتها بالخطاب الديني وفك الاشتباك ما بين النص والعادة أو العرف. حديث الأمير يؤسس لمرحلة قادمة في العالم الإسلامي وعلاقته مع الغرب وسوف تتضح معالمها مع الوقت عندما يستوعب المهتمون أهمية وعمق ما تم طرحه، حيث يمثل فكراً تنويرياً وشجاعة وقدرة استثنائية على تحمل المسؤولية واختراق الحواجز وطرح آراء فكرية عميقة؛ ما يستوجب على المؤسسات التشريعية في عالمنا الإسلامي التقاطها والبناء عليها من أجل مستقبل مشرق لمجتمعاتنا وأجيالنا القادمة. حضور القرار السياسي يثبت وبالبرهان أنه قادر على إحداث التغيير متى ما أراد ذلك بغضّ النظر عن الممانعة الآيديولوجية أو الاجتماعية، وما يحدث في السعودية أكبر دليل حي على ذلك.
ومع ذلك هناك شخصيات مأزومة في هذا العالم والتي عادةً ما تعيش صراعاً داخلياً ولا تلبث أن تفرغ شحنات معاناتها بأساليب مختلفة، يتساوى في ذلك المتعلم والجاهل، لأن الأمر يتعلق بالحقد والبغض والعنصرية، ولذا تجدها تزرع الكراهية وتناصب العداء وتميل للتشاؤم والانعزال والتقوقع. فهي لا تؤمن بالاختلاف وتحتكر الحقيقة المطلقة ومن لا يتفق معها تهاجمه بضراوة بسبب النرجسية المتضخمة داخلها.
مارين لوبان اليمينية المتشددة ومرشحة الرئاسة الفرنسية ورئيسة حزب التجمع الوطني هي إحدى هذه الشخصيات المأزومة، وهي تمثل الفكر العنصري وبامتياز. وهي اصطدامية ومتطرفة ولديها مواقف عنصرية ومقززة تجاه المسلمين والمهاجرين، ودائماً ما تكون طروحاتها استفزازية تعصبية هدفها إثارة الكراهية والتفرقة وبقاء هذا العالم عُرضة لصراعات عرقية ودينية. وخطورة بلوغ مثل هذه النماذج المناصب العليا في دول ديمقراطية يمثل الخطر بعينه لأنها قد تغيّر اتجاه البوصلة إلى اتجاه يعرّض الدولة فيها إلى مخاطر لا يمكن التنبؤ بها.
في المقابل هناك شخصيات وعقليات تؤمن بقيمة الإنسانية وما يجمعها من مشتركات وتدعو إلى التسامح والتعايش والإخاء والتقارب. شيخ الأزهر أحمد الطيب من هذه الفئة النقية بدليل تصريحاته الأخيرة التي تستدعي التوقف عندها كونها تعكس توجهاً إنسانياً راقياً لقامة إسلامية تدعو للانفتاح واحتواء الشعوب غير المسلمة. يقول: «لا يجوز للمسلم مسّ التوراة والإنجيل دون طهارة»، ويؤكد أن «التضييق على غير المسلمين في مأكلهم ومشربهم في نهار رمضان بدعوى الصيام (سخف) لا يليق ولا يمتّ للإسلام من قريب أو بعيد». ويمضي بنا الشيخ متألقاً ليقول: «لا محلَّ ولا مجال أن يُطلق على المسيحيين أنهم (أهل ذمة)، فهم مواطنون متساوون في الحقوق والواجبات... كون (المواطنة) تعبِّر عن روح الإسلام وفلسفته».
ويضيف سماحته أنه «لا يوجد في القرآن ولا في السنة النبوية ما يُحرِم بناء الكنائس... وما يحدث من مضايقات عند بناء أي كنيسة هو ميراث عادات وتقاليد... وبناء مسجد أمام كنيسة والعكس نوع من التضييق المنهيّ عنه، فضلاً عن أن الإسلام يساوي بين الدفاع عن المساجد والدفاع عن الكنائس ومعابد اليهود بالقدر نفسه».
هذا صوت عاقل لعالم إسلامي رصين ورزين، ولكن مما يؤسَف له أنه في الوقت الذي تتجه فيه أصوات الاعتدال في العالم إلى التفاهم واحترام خصوصية الأديان، تخرج علينا أصوات نشاز متطرفة كهذه لا تلبث أن ترفض مبدأ التعايش مكرسة حقدها على الإنسانية.
لوبان برلمانية فرنسية يمينية متشددة وتكرس العنصرية كسلوك بغيض لعلها تحصل على المزيد من الأصوات، وهي قد ورثت عن والدها قيادة حزب الجبهة الوطنية المتطرف وظلت رغم انقلابها وانفصالها عنه تتبنى ذات التوجهات العنصرية البغيضة وتضغط على حرمان الأقليات من حقوقهم، فهي تكره المسلمين ولو كانوا يحملون الجنسية الفرنسية بل تشكك في ولائهم وتطالب بالتضييق عليهم ونبذهم.
كما أن حزبها التجمع الوطني، وهو حزب عنصري عدائي تجاه الآخر ولديه رؤية مستقبلية كارثية لفرنسا في حال تطبيقها، ينادي بالتقوقع والانسلاخ من المحيط الأوروبي والتزاماته الاقتصادية والمالية والعسكرية واتفاقية شينغن علاوة على منع المهاجرين وإيقاف بناء المساجد ومنع ارتداء الحجاب في الأماكن العامة... بعبارة أخرى هو مشروع انقلابي على الفكر التنويري والحضاري الفرنسي ومنظومة الحريات وحقوق الإنسان والعدالة التي لطالما تغنت بها باريس وبثّتها لأصقاع العالم.
الشعب الفرنسي يوقن بأن معظم ما تصرح به لوبان ليس حماية للسيادة الوطنية كما تزعم هي، بل هو تحريض على الكراهية العرقية، بدليل عدم احترامها للأديان، ما يعد خروجاً على قيم الجمهورية وتقاليد فرنسا العريقة.
المثير هو ما يردده أولئك المعتوهون من تبريرات تتمثل في أن ما يمارسونه يندرج في سياق حرية التعبير. وإن كان الجميع متفقاً على ضرورة حرية التعبير ولكن الاختلاف الذي ينشأ يكمن تحديداً في: إلى أي مدى يمكن أن نصل إليه؟ طبعاً حرية الرأي من صميم الحقوق بدليل تضمينها إياها في الاتفاقات والمواثيق الدولية. وقد مرت هذه الجزئية تحديداً بمراحل متعددة لا سيما بعد التحولات الثقافية والفكرية، ما يعني ضرورة إعادة النظر فيها، وبقراءة جديدة لتحديد معالم إطار المفاهيم لمعنى الحرية والحق في إبداء الرأي.
لأنه ليس من المقبول عقلاً ولا منطقاً أن يُقْدم أشخاص ولو كانوا سياسيين (السياسي يُفترض أن يكون أكثر حصافة وحكمة) من أي طرف كان على إيقاع حكومات وشعوب في فخ مواجهات وصراعات بدعوى أن الدستور يكفل حرية التعبير، فهل حرية الرأي يجب أن تكون مطلقة أم هي نسبية؟ وهل يُفترض تقييدها في مسائل معينة؟ وفي المقابل نتساءل أيضاً: ماذا ستكون عليه الصورة فيما لو، على سبيل المثال، قام أحد المسلمين بإنكاره للهولوكوست، أو قام آخر بإحراق الإنجيل أو التوراة، رغم رفضنا القاطع لهكذا تصرفات؟ وما ردود الفعل الغربية حيالها: هل ستعدّها تندرج ضمن نطاق حرية التعبير، أم أنها تصنفها جريمة يُعاقب عليها؟ إن حرية التعبير في الغرب لا تعني دعوة للكراهية أو تعطيك الحق في الإساءة لأي دين أو رموز، ولذا فمواجهة التعصب الديني لا تتحقق إلا برفض التطرف من أي طرف كان وتجاهل طروحات المتعصبين عبر حوار يهدف إلى تفاهم عالمي بين أتباع الأديان، ما يلغي مفاهيم التعميم والأحكام الجزافية ويشكل مناخات مشتركة للتعاون على قاعدة احترام المعتقد والتعايش.
أفكار زعيمة العنصرية الجديدة في فرنسا تهدد المشروع التنويري في أوروبا، والقصة اختصرتها «اللوموند»، الصحيفة الفرنسية، حين وصفت حزب ماري لوبان بأنه يمثل تهديداً خطيراً على البلاد، وأن آيديولوجيا الحزب والحلول التي يقترحها مخالفة لقيم الجمهورية، وللمحصلة الوطنية ولصورة فرنسا في العالم.
نحن مع الحوار والتعايش والتسامح ورفض خطاب الكراهية والعنصرية. نحن بشر نعيش على كوكب واحد ومن المهم أن نركز على ما يجمعنا من مشتركات لا الاختلافات.
مواجهة التعصب الديني لا يتحقق إلا برفض التطرف من أي طرف كان وتجاهل طروحات المتعصبين عبر حوار يهدف إلى تفاهم عالمي بين أتباع الأديان، ما يلغي مفاهيم التعميم والأحكام الجزافية ويشكل مناخات مشتركة للتعاون على قاعدة احترام المعتقد والتعايش.
قارن بين طروحات المرشحة لوبان التي ستمنع الحجاب، الذي هو في تقديري حرية شخصية، وبين الشيخ أحمد الطيب الذي يؤيد بناء الكنائس والتعايش مع المسيحيين واليهود، وحينها فقط نستطيع أن نفهم ونستوعب مدى الفارق بين التحضر والتخلف أو بين قيمة الانفتاح والعقلانية والتسامح وبين التعصب والأنانية والشوفينية.
TT
الطيب ولوبان... بين ضرورة التسامح وكارثة التعصب!
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة