توفيق السيف
كاتب سعودي حاصل على الدكتوراه في علم السياسة. مهتم بالتنمية السياسية، والفلسفة السياسية، وتجديد الفكر الديني، وحقوق الإنسان. ألف العديد من الكتب منها: «نظرية السلطة في الفقه الشيعي»، و«حدود الديمقراطية الدينية»، و«سجالات الدين والتغيير في المجتمع السعودي»، و«عصر التحولات».
TT

النقد الأخلاقي للتراث: مجادلة أولى

ذكرتُ في مقال الأسبوع الماضي أنَّ الأفعالَ قد تكون حسنةً في زمن وقبيحةً في زمن آخر. وضربت مثلاً بفتوحات المسلمين القديمة. وقلت إنَّ الفكرة نفسها قابلة للتطبيق على الروايات التي تحكي حياة تلك الحقبة، بما فيها روايات عن النبي والصحابة.
ولم تجدْ هذي الفكرة هوى عند بعض القراء الأعزاء. فجادلوا بأنَّ الحسن أو القبح لا يمكن أن يختلفَ. فهل يمكن وصف الظلم يوماً بأنَّه حسن، أو وصف العدل بأنَّه قبيح؟ وهل يختلف حسن العدل وقبح الظلم بين الحاضر والماضي؟
جوابي عن هذا أنَّ للفعل حالتين: حالة ذهنية تصورية مجردة، وحالة فعلية تطبيقية. فالعدل النظري المجرد لا خلاف فيه؛ بل في تطبيقه على حدث بعينه. دعنا نأخذ مثالاً بالعبودية التي تداولها أسلافنا كفعل عادي لا كظلمٍ قبيح، مع أنَّها تعد الآن من أقبح التصرفات. فلو سألتَ شخصاً، من أي دين أو بلد، عن رأيه في استعباد الناس، فهل سيجيبك بأنَّه فعل حسن وعادل، وأنَّه يتقبل أن يكون عبداً لشخص آخر، وأن تكون زوجته أَمَة لذلك الشخص؟ اعلمْ أنَّ أحداً لن يرضى بهذا.
لكن تجارة الرقيق واقتناءهم كانت متاحة ومباحة في الماضي، في بلاد المسلمين وغيرها. وكانت قوافل السبايا جزءاً ثابتاً في غنائم الحروب. ويندر أن تجدَ بين السلف رجلاً ذا مال، وليس عنده رقيق وإماء، بمن فيهم الخلفاء والأئمة والعلماء، فضلاً عن سائر الناس. ولذا حوت أغلب كتب الفقه القديمة باباً خاصاً بأحكام الرقيق، أحكام بيعهم وشرائهم واقتنائهم، والأحكام الخاصة بهم التي تختلف عن الأحكام الخاصة بالأحرار، نظير حجاب الإناث وزواجهن، ونظير دية القتيل وإرث الميت... إلخ.
فهل سنشجب فعل أسلافِنا وصناع تراثنا، أو نتهمهم بالجهل أو بضعف المشاعر الإنسانية؟ وإذا قررنا أن فعلهم خاطئ وذميم، فهل سنقبل اجتهاداتهم ومروياتهم، أي مساهمتهم في التراث وعلوم الشريعة التي نعتمدها حتى اليوم؟
أعلم أن بعضَ القراء سيقول مثلاً إنَّ التشريعات الخاصة بالعبودية صيغت على نحو يقلصها حتى ينهيها. ويقال هذا عادة في سياق التبرير لفعل الأسلاف. لكن الذي حدث في الواقع هو أنَّ الرقَّ في بلاد المسلمين تلاشى نتيجة لتطور مفاهيم حقوق الإنسان؛ لا سيما عقيب الحرب العالمية الأولى. وأذكر «اتفاقية تحريم الرق» التي تبنتها «عصبة الأمم» سنة 1926. ومن ثمارها أنَّك لا ترى رجلاً -أو امرأة- يباع في السوق، كما كان الحال قبل ذلك التاريخ.
لم تعد العبودية إذن فعلاً عادلاً أو مقبولاً عند الناس والقانون. وتبعاً لهذا، لو صرَّح فقيه أو زعيم سياسي بأنه يريد إحياءها؛ لأنَّ الشرع (كان) يقبلها في الماضي، لهاج المسلمون وماجوا منكرين، ولأفتى فقهاء آخرون ضد هذه الدعوة التي -فوق قبحها- مسيئة للمسلمين ودينهم.
لا نحتاج في الحقيقة إلى إدانة فعل الأسلاف، ولا القول بأنَّ الرقَّ أمر طيب. الرق كان منذ البدء فعلاً قبيحاً؛ بل هو ناقض لحرية الاختيار الضرورية لتوحيد الخالق سبحانه. لكن هذا القول بذاته -أي اعتبارنا أنَّ الرق قبيح- هو فكرة جديدة، تبناها البشر بعدما تطورت معارفهم وشعورهم بذاتهم الفردية. وهذا كله ثمرة لهيمنة العلم على مجالات الحياة.
وقد تأثرنا بهذا الاتجاه بعد اندماجنا في اقتصاد العالم وثقافته. ولو كنا منعزلين مثل كوريا الشمالية، فلربما تقبلنا ممارسات شبيهة بالرق. اندماجنا في اقتصاد العالم لا يغير معيشتنا فقط؛ بل أيضاً يطور فهمنا لذاتنا وتكويننا الثقافي وهويتنا الفردية. هذا التطوير ينعكس على شكل إعادة تقييم للأفعال والأشياء، وإعادة صياغة لمنظومات القيم والمعايير التي نستعملها في التعامل مع الأفكار والعناصر المادية، في محيطنا الطبيعي والاجتماعي.