حنا صالح
كاتب لبناني
TT

القضاء رجل العام في لبنان!

عندما تسلم القاضي طارق البيطار، في فبراير (شباط) 2021 التحقيق في جريمة تفجير المرفأ وبيروت، نُقل عنه قوله إن «العدالة في مثل هذا الملف لا يمكن أن تتم إلا مع إدانة سلطة سياسية وكبار المسؤولين والأمنيين». ونُقل عنه: «سأذهب إلى حيث يقودني القانون والحق، لن يوقفني شيء... لن أترك التحقيق ينحرف». في هذا الوقت توقع الذين أبعدوا المحقق العدلي فادي صوان بتهمة «الارتياب المشروع»، بأن المحقق العدلي الجديد فهم الدرس! بعدما ضخموا أقوال صوان من أن الحصانات تسقط أمام حصانة الدم، واتهموه بتجاوز الدستور!
جرت العادة أن الجرائم الكبرى منذ مقتل النائب معروف سعد في 1975 تُقيد ضد مجهول! لم يتبدل شيء للممسكين بالقرار، رغم أن جريمة تفجير المرفأ صنفت بالجريمة الإرهابية وبجريمة حرب. لذلك بعد ضخٍ إعلامي وترويج عنوانه «القضاء والقدر» بادر الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله إلى دعوة قاضي التحقيق السابق بأن يعلن نتائج التحقيق الأمني، «واتركوا الناس ممن لديهم تأمين ليقبضوا التعويضات عن الأضرار»!
ارتبط الموقف برسالة وجهها صوان إلى البرلمان حملت ارتياباً بـ23 مسؤولاً سياسياً وأمنياً تعاقبوا على المسؤولية منذ العام 2014 تاريخ تخزين شحنة الموت! والأكيد أن الأمين العام لـ«حزب الله» الذي انفرد بإعلان الموقف، شاركه فيه جهات أخرى بينها رئيس الجمهورية، الذي وعد بإعلان التحقيق خلال 5 أيام! وكان المقصود التحقيق الأولي الذي رسا ضمناً بأن «أبو عدس» تفجير المرفأ هو «الإهمال» وعملية «تلحيم»!
وجد المحقق العدلي البيطار ملفاً كبيراً، وهو المعروف بالدقة والنزاهة كما الشجاعة. اهتم بالأقوال والممارسات، وتتبع التقارير والمراسلات الداخلية. لا شك أنه توقف عند أول تقرير عن القضية وضعه العقيد الجمركي جوزيف سكاف في مارس (آذار) 2014 وهو يحذر من الخطر، ليقتل في العام 2017 في ظرفٍ «غامض» بعد تقاعده! كما لفته مقتل العقيد المتقاعد منير أبو رجيلي في ديسمبر (كانون الأول) 2020 بعد أيام من إدلائه بإفادته، وبعده كان مقتل المصور جو بجاني في يناير (كانون الثاني) 2021 بعدما تردد أن بحوزته ملفاً للمرفأ!
استراتيجية البيطار قادته إلى الادعاء على كل من تسلم تقريراً أمنياً خطياً يبرز المخاطر على العاصمة وأنها يمكن أن تزول، وامتنع عن تحمل مسؤولية حماية الأرواح. أثار ذلك حفيظة منظومة الحكم للتجرؤ بالادعاء على رئيس الحكومة حسان دياب والوزراء نهاد المشنوق وعلي حسن خليل وغازي زعيتر ويوسف فنيانوس إلى قائد أمن الدولة اللواء طوني صليبا، ومدير عام الأمن العام اللواء عباس إبراهيم!
لم يطلب القضاء هذه الشخصيات كشهود للاستماع إليهم، بل ادعى عليهم بجناية «القصد الاحتمالي» بالقتل، وجنحة الإهمال. و«القصد الاحتمالي» عالجته المادة 189 من قانون العقوبات، عندما قالت إنه على المسؤول المعني إذا توقع جريمة قد تنشأ عن هذا الفعل، فقبل بالمخاطرة وتعامى عنها، وأغفل مسؤوليته مما أدى إلى النتيجة الجرمية، ففي ذلك قتل «قصدي»، أدى إلى سقوط 224 ضحية ونحو 7 آلاف جريح. والسؤال الحقيقي المطروح مَن هي هذه السلطة العليا التي دفعت كل الطبقة السياسية والقيادات العسكرية والأمنية إلى التعامي وقبول المخاطرة؟ وهل صحيح أنه سُرب للبعض أن هذه الشحنة هي لزوم براميل الموت لقتل السوريين، فتعاملوا مع الأمر أن السوريين شعب زائد (...) وفوجئوا بأن الكمية المتبقية تفجرت باللبنانيين ولولا مبنى الإهراءات لكان القتل مضاعفاً!
وانفجر بركان الغضب! اجتمع ضد المحقق العدلي كل التركيبة المتحكمة باللبنانيين بقيادة «حزب الله»، فأطلقوا التهم واستهدفوا شخص القاضي، والزعم أنه يعمل بـ«استنسابية»! باتوا جميعاً مراجع في القانون وراحوا يحددون كيف يجب أن يحقق ومن ينبغي أن يُستجوب! وألصقوا به تهمة العمل بتوجيهات «السفارة الأميركية» لتنفيذ مخطط اتهام الطبقة السياسية بجريمة تفجير بيروت، ما يشجع التصويت العقابي لقلب منظومة الحكم! لكن في الحقيقة أرعبهم كابوس التحقيق العدلي، فادعوا التمسك شكلاً بالدستور وهم أول من طعنه وانقلب عليه، ويسعون الآن إلى تلمس غطاء شرعي للهرب من الحقيقة والعدالة.
منذ يوليو (تموز) بدأت الحملة رداً على طلب رفع الحصانات. عجزوا عن إيجاد أي خطأ أو ثغرة فنسبوا إلى البيطار الكثير، وروّجوا حكايات وفبركوا اتصالات، فتجاهل الأبواق وسياسيي الصدفة، ليكتفي بكلمة واحدة رداً على تهديد وفيق صفا المسؤول الأمني في «حزب الله» بـ«قبعه» فقال: «بيمون». لكنه التزم القانون والقناعة بالدفاع عن الضحايا والمدينة المكلومة وتطبيق العدالة. فاشتدت الحرب ضده، والقرار المعلن منعه من تطبيق قانون هم من دبجه، فهالهم أن يأتي زمن ويتجرأ قاضٍ على من وضعوا أنفسهم فوق القانون!
نشطت الغرف السوداء فأُقيمت 18 دعوى «رد» المحقق أو «كف يده» و«مخاصمة الدولة»، سقطت كلها لأنها لم تستند إلى أسس قانونية وجرى تقديمها بهدف المماطلة، لأن كل دعوى استتبعت بوقف التحقيق حتى البت فيها. بدت الدعاوى إصراراً على إهانة أهل الضحايا الذين ينتظرون كلمة القضاء، وفجوراً من جانب سياسيين وقانونيين «يعملون ع القطعة»، استخفوا بسقوط 224 ضحية ونحو7 آلاف جريح وضياع جنى عمر عشرات ألوف الأسر!
في 11 أكتوبر (تشرين الأول) طالب نصر الله بـ«قبع» البيطار بواسطة مجلس القضاء الأعلى أو مجلس الوزراء. وفي اليوم التالي حوّل «حزب الله» الحكومة إلى جثة ممنوع أن تجتمع كمجلس وزراء وممنوع دفنها، حتى تنفذ إرادة «حامل الأختام» فلم ينجح! وتسبب محاكاة الحرب الأهلية في جريمة الطيونة يوم 14 نوفمبر (تشرين الثاني) في سقوط 8 ضحايا وعشرات الجرحى في عراضة حزبية أرادت تحميل البيطار المسؤولية، فدفع الناس الثمن ولم تتحقق الأهداف! فبدأ استهداف القضاء الذي يشهد انتفاضة لم يعرفها منذ عقود، شكلت مع رئيسه الدرع الواقية لمسار العدالة. والأهم أنها انتفاضة وجهت رسالة أمل بأن استقلالية السلطة القضائية ستُفرض بالممارسة، ولن يتأخر زمن بدء القضاء محاسبة الناهبين المسؤولين عن إذلال اللبنانيين وتجويعهم!
عميقٌ الانقسام حول قضية العدالة للضحايا ولبيروت والانتهاء من زمن الإفلات من العقاب، وكبيرٌ الرهان على القضاء للنهوض؛ المواطنون في جهة والمنظومة في الأخرى. يوم 21 ديسمبر (كانون الأول) شهد سقوط مقايضة طعن السلطة القضائية والعدالة والحقيقة بطعن حق المغتربين بالاقتراع، ما عكس قوة الأثر الذي تركته ثورة «17 تشرين»، وحجم بقعة الضوء الآخذة في الانتشار رغم العوز. صحيح ما زالوا على كراسيهم لكن مناخ تشرين لم يخمد، وتبرز صلابة مواطنين وهم يرفضون الرضوخ للابتزاز، ويوحدهم هَم استعادة الدولة المخطوفة، وهم حراس مسار العدالة، النهر المتدفق الرافض الارتهان والتطويع رغم الصعوبات والعراقيل... في كل هذا المنحى استحق القضاء عن جدارة والقاضي البيطار أبرز رموزه تسمية رجل العام.