عقد وزراء خارجية حلف شمال الأطلسي (الناتو) اجتماعهم الأخير العام الحالي في ريغا في الفترة من 30 نوفمبر (تشرين الثاني) إلى 1 ديسمبر (كانون الأول)، وسط الكثير من الأحداث التي نتحدث عنها بالفعل. ففي إعلانه عام 2020 أن «ناتو ميت إكلينيكياً»، بدا الرئيس فرنسوا ماكرون منزعجاً مما سمَّاه عدم كفاية التشاور بين الحلفاء. وما دفعه إلى طرح هذه التعليقات هو إحباطه من العملية العسكرية التركية في سوريا. بعبارة أخرى، كان منزعجاً من تهميش فرنسا في منطقة تعدّ فيها نفسها «دولة ذات مسؤوليات تاريخية».
ومن الجدير بالذكر أيضاً، أن فرنسا التي قدمت هذه الشكاوى كانت دائماً الدولة الرائدة، وإن كان «بوتيرة أقل في (الناتو)، وأكبر في الاتحاد الأوروبي». جادلت فرنسا، التي كانت من أشد المؤيدين للهوية الدفاعية المستقلة للاتحاد الأوروبي، بقوة في أن المنصة المناسبة للتشاور السياسي هي الاتحاد الأوروبي وليس «الناتو». على أي حال، أخذ «الناتو» هذه الحجج على محمل الجد واستجاب ببدء عمل ما، وكان المنتج الأول هو «جدول أعمال (الناتو) 2030» الذي جرى تطويره بهدف ضمان قدرة الحلف على مواجهة تحديات اليوم والمستقبل بشكل فعال.
يعمل التحالف الآن على مفهوم استراتيجي جديد، ليتم اعتماده رسمياً في قمة مدريد في يونيو (حزيران) 2022. وعمر المفهوم الاستراتيجي السابق، الذي جرى تبنيه في قمة بروكسل، أحد عشر عاماً، ومنذ ذلك الحين، لم يتغير كثيراً. وسيحدد المفهوم الجديد «التحديات الأمنية والمهام السياسية والعسكرية التي سينفذها (الناتو)»، وسيكون ذلك عن طريق البناء على عناصر من الماضي ذات صلة بالحاضر. كل هذا يحدث في وقت تثار فيه تحديات مختلفة وإعادة تحديد المواقع في جميع أنحاء العالم.
وها هي الولايات المتحدة تحوّل تركيزها وتعيد ترتيب أصولها العسكرية. فالقيام بذلك دون المساومة بشأن المناطق ذات الأهمية الكبرى، مثل أوروبا والشرق الأوسط، يمثل تحدياً خطيراً.
على الجانب الآخر، تعمل روسيا والصين أيضاً على تغيير موقعهما. فالصين في عهد الرئيس شي جينبينغ أكثر حزماً. وروسيا تعمل على توسيع وجودها من خلال المواقف، ومن خلال العروض التوضيحية للأسلحة الجديدة والتدخل في بعض الأحيان. كما تقوم روسيا والصين بأنشطة عسكرية مشتركة. لروسيا والصين شركاء وحلفاء أيضاً، فإيران على سبيل المثال متواجدة على المسرح. في مارس (آذار)، أبرمت الصين اتفاقية جوهرية مع طهران لاستثمارات بقيمة 400 مليار دولار على مدى السنوات الـ25 المقبلة مقابل شحنات ثابتة من النفط والغاز. ومن ناحية أخرى، بعد سنوات عديدة، جرى قبول إيران أخيراً كعضو كامل في «منظمة شنغهاي للتعاون» في سبتمبر (أيلول) .
ومع كل التطورات الجيواستراتيجية والتكنولوجية، لم يعد للأمن حدود أو قيود إقليمية، حيث أُبرمت شراكات جديدة في الأفق، وشدد الأمين العام لحلف «الناتو» على أنه يتعين على الحلف تكثيف تعاونه مع شركائه في منطقة آسيا والمحيط الهادي، وبالتحديد أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية ونيوزيلندا. يجب قراءة هذا البيان مقترناً مع التطورات في آسيا ومع تشكيلات مثل «AUKUS» الذي يضم أستراليا، والمملكة المتحدة، والولايات المتحدة، وتحالف مثل «الحوار الأمني الرباعي» (QUAD) الذي يضم الهند، واليابان، وأستراليا، والولايات المتحدة.
لكل من روسيا والصين الاهتمام الكامل بحلف «الناتو». ففي بيانه الصادر في يونيو 2021، أشار «الناتو» إلى روسيا باعتبارها «تهديداً للأمن الأوروبي الأطلسي». وفي الوثيقة ذاتها ذُكر، أن «الصين يمكنها أن تواجه تحديات».
حتى في غضون ستة أشهر تطورت هذه المراجع. فبحسب تعبير الأمين العام لـ«الناتو» في «ريغا» قبل أيام، فإن روسيا والصين تعملان على تقويض النظام الدولي القائم على القواعد. فالنظام الروسي عدواني في الخارج وقمعي في الداخل، والحزب الشيوعي الصيني يستخدم قوته الاقتصادية والعسكرية لإكراه البلدان الأخرى والسيطرة على شعوبها.
ورغم أن الصين جديدة نسبياً على الحلف، فإن التاريخ مع روسيا يعود إلى الوراء. ففي أعقاب انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت هناك حقبة جديدة من العلاقات بين «الناتو» وروسيا. وفي عام 2002، جرى إنشاء «مجلس الناتو وروسيا»، وكان بالفعل منتدى مفيداً للتشاور حول مجموعة واسعة من القضايا الأمنية ذات الاهتمام المشترك. ورغم ذلك، فإن التدخل الروسي في أوكرانيا في أبريل (نيسان) 2014 وما بعده، والتدخل المزعوم في الانتخابات والهجمات الإلكترونية واستهداف شخصيات المعارضة والمعارضين الروس، تسبب في تغيير كل شيء، وباتت العلاقات متوترة. وكان آخر اجتماع للمجلس في عام 2019، وبعد ذلك التاريخ، لم تستجب روسيا لدعوات «ناتو» لعقد اجتماع.
شهدت العلاقات بين «الناتو» وروسيا مزيداً من التراجع عندما ألغى «الناتو» اعتماد العديد من الدبلوماسيين الروس لتورطهم المزعوم في أعمال التجسس. وردت روسيا بتعليق مهمتها في حلف شمال الأطلسي (الناتو) وإغلاق بعثة الاتصال التابعة للحلف وكذلك مكتبها الإعلامي في موسكو.
وجاء التصعيد الأخير بين روسيا وأوكرانيا ليهيمن على اجتماع وزراء «الناتو» في ريغا، والذي نتج من الحشد العسكري الروسي المكثف بالقرب من أوكرانيا. وأعرب وزراء «الناتو» عن تضامنهم مع أوكرانيا وحذروا روسيا من أن أي اعتداء عليها سيكون له تداعيات سياسية واقتصادية خطيرة، ورفضت روسيا هذه المزاعم. وتوصل بوتين إلى تصورات روسيا للتهديد، وأكد قلق بلاده بشأن توسع «الناتو» باتجاه الشرق ونشر الأسلحة بالقرب من حدودها.
تبدو يد حلف شمال الأطلسي مليئة بمجموعة متنوعة من القضايا والتحديات من الداخل والخارج وعلى جبهات عديدة. ومن القضايا الأخرى التي ميزت اجتماع الوزراء كان التقييم الذي كان يجب القيام به نتيجة للتطورات المأساوية الأخيرة في أفغانستان. ويمكن تلخيص نتيجة التقييم على النحو التالي: على الرغم من تحقيق بعض النجاحات العسكرية، ككل ومع إشارة خاصة إلى بناء الدولة، لم يكن «الناتو» مستعداً بدرجة كافية ولم تكن الأهداف واقعية. وفي حالة حدوث مثل هذا في المستقبل، يجب ترتيب الأوضاع بطريقة مختلفة، وسيتعين إنجاز الكثير من الآن وحتى موعد انعقاد القمة في مدريد العام المقبل.
TT
وحدة الـ«ناتو» وعواصف الأزمات
المزيد من مقالات الرأي
لم تشترك بعد
انشئ حساباً خاصاً بك لتحصل على أخبار مخصصة لك ولتتمتع بخاصية حفظ المقالات وتتلقى نشراتنا البريدية المتنوعة