وائل مهدي
صحافي سعودي متخصص في النفط وأسواق الطاقة، عمل في صحف سعودية وخليجية. انتقل للعمل مراسلاً لوكالة "بلومبرغ"، حيث عمل على تغطية اجتماعات "أوبك" وأسواق الطاقة. وهو مؤلف مشارك لكتاب "أوبك في عالم النفط الصخري: إلى أين؟".
TT

الحياد الكربوني ليس مجرد رقم

فلتتخيل أنك تمتلك مطعماً، وتنتج كل يوم كميات كبيرة من الأطباق التي تعتمد على اللحم، وهذا اللحم يعتمد على الأعلاف، وهذه الأعلاف تعتمد على الماء بشكل كبير. ووسط كل هذه السلسلة المعقدة من المواد، اتخذ صاحب المطعم قراراً بتخفيض استهلاك المياه بصورة كبيرة حفاظاً على البيئة.
الاستنتاج البديهي الذي سنصل إليه هو أن صاحب المطعم سيضطر إما إلى التنازل عن جزء كبير من دخله، من خلال تقليل كمية اللحوم التي سيتم استخدامها، أو أن صاحب المطعم سيتجه إلى شيء آخر مغاير تماماً وكلية من أجل تقليل استخدام المياه في الأعلاف، أو من خلال إيجاد نوع جديد من الأعلاف لا يستهلك المياه.
حقيقة لا أعلم كيف سيتم كل هذا عندما نتحدث عن الأعلاف، ولكن عندما نتحدث عن الحياد الكربوني، فإني أعلم أن هذا تحدٍ كبير جداً. المملكة هي المطبخ الذي ينتج النفط لكل العالم، والكربون هو جزء من سلسلة الطاقة التي تنتجها المملكة، ولهذا فإن الوصول إلى الحياد الكربوني الذي أعلنت عنه الحكومة السعودية معناه أن المملكة تريد إنتاج اللحوم من دون استهلاك للمياه.
إن إنتاج النفط والغاز في المملكة سيستمر لما لا يقل عن 50 عاماً، إذا ما تم إنتاجه بالكميات الحالية نفسها (9 إلى 10 ملايين برميل يومياً). وإذا ما أردنا الوصول إلى الحياد الكربوني بحلول 2060، فهذا يتطلب عاملين: الأول هو تخفيض الانبعاثات، والثاني هو التحول إلى مصادر طاقة أنظف.
وبالنسبة للجانب الأول، فإن المملكة ستعمل على تخفيض الانبعاثات من خلال كثير من المبادرات، أهمها زراعة 10 مليارات شجرة، أما التحول إلى مصادر طاقة أنظف فهذا يتطلب القضاء على استخدام النفط والوقود السائل في المحطات، والتحول للغاز والطاقة المتجددة مثل الشمس والرياح. كلا العاملين تم الإعلان عنهما، وجارٍ العمل على تنفيذهما، وستحاول المملكة الوصول إلى مزيج يعتمد على الغاز الطبيعي والطاقة الشمسية والرياح بنسبة 50:50 في المائة.
لكن هذا لن يكون أمراً سهلاً من الناحية المالية، إذ سيتطلب كثيراً من الاستثمارات في مشاريع الطاقة الشمسية. وهنا، نتكلم عن إنتاج ما لا يقل عن 50 ألف ميغاواط خلال السنوات العشر المقبلة، بافتراض أننا سنحتاج إلى 100 ألف ميغاواط حينها.
السؤال المهم الآن هو: لماذا قررت المملكة فجأة أن تتخذ قراراً بهذا الحجم؟
أولاً، هناك اعتبارات سياسية كثيرة لهذا الموضوع، إذ إن المملكة عضو مهم في مجموعة العشرين، وعليها أن تلعب دوراً كبيراً في التحول الطاقوي الذي يتجه له العالم، وعليها أن تلتزم بكل ما أعلنت عنه في قمة مجموعة العشرين التي استضافتها العام الماضي، من خلال تبني مبادئ الكربون الدائري، والمساهمة في خفض الانبعاثات عالمياً.
الاعتبار السياسي الآخر هو أن الشرق الأوسط دائماً محط انتقادات دولية لغياب جهوده في المساهمة في الحد من آثار التغير المناخي والانبعاثات الكربونية، وكان يجب على المملكة أن تكون قائدة في هذا المجال، نظراً لعدم وجود قائد يوحد جهود المنطقة، ويمتلك ثقلاً سياسياً واقتصادياً وفنياً.
وهناك اعتبارات اقتصادية أخرى، وهي أن المملكة تدرك أن مستقبلها لم يعد في النفط، وأن العالم لن يقترب أكثر منها إذا ما ظلت دولة نفطية، في ظل اتجاه كل العالم إلى الطاقة الخضراء، وهذا سيضعف حظوظها في الحصول على تمويل في المستقبل، وعلى استقطاب السياح الذين زاد اهتماهم بالسياحة البيئية.
إن بلداً منخفض الكربون هو بلد يستطيع الحصول على تمويل في المستقبل، إذ لم يعد بالإمكان الهروب من هذا الأمر. نقطة أخيرة، وهي أن العالم سينظر بمزيد من الترقب لكيف ستنفذ المملكة خططها، ولهذا فإن التشكيك الإعلامي سيتزايد، والمراجعة الدورية في قمم المناخ ستزداد، وهذا تحدٍ اتصالي وإعلامي كبير يجب أن تستعد له المملكة.