زهير الحارثي
كاتب وبرلماني سعودي. كان عضواً في مجلس الشورى السعودي، وكان رئيساً للجنة الشؤون الخارجية، وقبلها كان عضواً في مجلس «هيئة حقوق الإنسان السعودية» والناطق الرسمي باسمها. حاصل على درجة الدكتوراه في فلسفة القانون من جامعة كِنت - كانتربري في بريطانيا. وهو حالياً عضو في مجلس أمناء «مركز الملك عبد العزيز للحوار الوطني». عمل في النيابة العامة السعودية إلى أن أصبح رئيساً لدائرة تحقيق وادعاء عام. مارس الكتابة الصحافية منذ نحو 3 عقود.
TT

العرب والمواطنة... السياسة والمعتقد والعادات!

على امتداد التاريخ الحديث والمعاصر فإن التحولات والأحداث والمتغيرات أدت إلى ظهور مفاهيم جديدة وقضايا وأولويات للنظام العالمي ما لبثت أن انعكست على طبيعة النظام الدولي وأسهمت في هز مفاهيم تقليدية كالدولة والسيادة المطلقة بشكل غير مسبوق. فكرة الدولة القومية ومفهوم السيادة اللذين انبثقا من اتفاقية «ويست فاليا» عام 1648، كانا قد حددا مجموعة من الشروط والمبادئ والقواعد التي شكّلت إطار الدولة الوطنية الحديثة ومحدداتها كعنصر أساسي للمنظومة الدولية المعاصرة.
هناك اتجاهان يخيّمان على مستقبل السيادة؛ أولهما يرى اختفاء السيادة مستقبلاً نظراً للتحولات ودخول الشركات متعددة الجنسيات، وهي من الأفكار الشائعة في تاريخ الفكر السياسي، أما الرأي الآخر فيرى أنصاره أن السيادة ستظل باقية ما بقيت الدولة القومية - الوطنية ذاتها وإن تحجمت أدوارها مقارنةً بما كانت عليه في النظام الدولي التقليدي، وإن كان عقد المقارنات أمراً يبعث على الإحباط لا سيما عندما تكون تلك العلاقة ما بين الدولة والإنسان محل البحث والتمحيص بدليل الفارق في طبيعتها في عالمنا العربي مقارنةً بالغرب.
العالم العربي ظل خارج مدار فلك التغيير، إلا أنه شهد قبل أكثر من عقد من الزمن ما لم يشهده طيلة عقود طويلة. لحظة تاريخية عفوية في بداياتها كانت في الأساس ضد الجوع والفساد والفقر والاستبداد، إلا أن جماعات الإسلام السياسي ركبت الموجة واستغلت الحدث الشعبي العفوي لتحقق ما كانت تطمح إليه دائماً وهو الاستيلاء على السلطة.
وعندما نريد تحليل ما جرى ويجري، فعلينا عدم الارتهان إلى التفاؤل المفرط أو التشاؤم المحبط قدر الإمكان، لأننا بصدد مسار طويل وشاق. ومع ذلك لوحظ أن تداعيات الربيع العربي والنظرة إلى المستقبل دفعت البعض إلى تفاؤل مفرط بالتحول إلى الديمقراطية، وهذا لم يتحقق لأنها في تقديري رؤية غير واقعية، حيث لم يسندها الواقع السياسي والاجتماعي. يرى البعض أن المسألة لم تتعلق فقط بإسقاط أنظمة مستبدة بل إن المعيار يكمن فيما يتم إنجازه من عملية التغيير بجميع تجلياتها من سياسية واجتماعية وثقافية واقتصادية، مع ملاحظة لا يمكن تجاوزها وهي أن هناك مَن وظّف الحدث لمصلحته وكسب الغنائم باحثاً عن السلطة مستفيداً من حالة الفراغ، فكانت جماعة «الإخوان المسلمين» التي تقدمت المشهد السياسي ليس لتميزها بل لفشل حركات التحرر الوطنية وضحالة مشروعها.
عندما قامت تلك الثورات وما تلاها من فوضى وصراعات، كان يتبادر إلى الذهن تساؤل مرير: متى تستقر الأوضاع وتستتب الأمور ويتحقق التغيير السياسي والثقافي؟ الثورة الفرنسية مكثت سبع سنوات في دوامة الصراع والمخاض لتنتج عنها تحولات ثقافية واجتماعية، والثورة البلشفية (الروسية) قطعت ثلاث سنوات من الصراعات الدموية لكي تحقق أهدافها سياسياً ولكن لم تصنع تحولات ثقافية تُذكر. كانت الخشية في عدم قدرة تلك الدول على تجاوز أزماتها، لا سيما أن فترة المخاض تجاوزت مدة طويلة آنذاك في بلدان عاشت عقوداً من الاستبداد والفساد. من الطبيعي أن تحدث ارتدادات عكسية ومعوقات، إلا أنه في نهاية المطاف لا يصح إلا الصحيح بدليل أن ثمة تجارب مشابهة من الحراك الشعبي في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية في العقود الثلاثة الأخيرة شهدت تحولات ديمقراطية ناجحة.
وفي هذا السياق نجد أن الحركات الثورية في أوروبا لم تأتِ من العدم، بل جاءت كنتيجة لنظريات مفكري عصر الأنوار من فرنسيين وإنجليز، والذين أسّسوا لحركة فكرية نقدية في القرن الثامن عشر مهّدت لبناء تصور جديد للمجتمع يقوم على الديمقراطية والحرية والمساواة، ونادت بالقطيعة المعرفية وفك الاشتباك بنفوذ الكنيسة والاستناد إلى العقل، كنظريات جان جاك روسو، وجون لوك في العقد الاجتماعي، وديفيد هيوم في علم الإنسان مقابل اللاهوت، ونقد فولتير للتعصب الديني والسياسي، ودور مونتسكيو في بلورة فكر عقلاني مناهض للأنظمة الاستبدادية.
لم يعد سراً أن الإمبراطوريتين البريطانية والفرنسية من خلال سايكس وبيكو، جزّأتا العرب في القرن الماضي إلى أراضٍ مكبّلة بقيود وثقافات محلية. ومع ذلك وبعد رحيل الاستعمار الغاشم عن بعض الدول العربية، نشأت أنظمة وطنية وأطلقت شعارات مؤثرة آنذاك لارتباطها بالأرض والحرية والاستقلال، لكنها ما لبثت أن عادت إلى ممارسة القمع، بمجيء أنظمة عسكرية كرّست الاستبداد والديكتاتورية. ليتحول المشهد من ليبرالية مشوّهة بعد الاستقلال إلى فضاء ملوث بالعنصرية والتمييز المذهبي والطائفي والقبلي. لم يعد للمواطنة والتسامح حيّز، بل أصبحت الساحات ميداناً لاشتباكات أهلية وتعصب وانغلاق وتخلف وجهل. صحيح أن العرب كانوا قد تخلصوا من الاستعمار إلا أنهم ارتهنوا له مرة أخرى بصيغ وأشكال مختلفة وربما أشد وطأة. العوائق في عالمنا العربي إلا من رحم ربي تكمن في غياب دولة القانون والمواطنة وتفعيل مؤسسات المجتمع المدني. عالمنا العربي بحاجة لمشروع فكري تنويري يفنّد ما كرّسته حركات الإسلام السياسي عبر عقود، ما يدفع باتجاه احترام العقل والعلم ويفك الاشتباك ما بين المعتقد والعادات لمواجهة الآيديولوجيات المتصارعة والتيارات المتناحرة وبما يسهم في ردم الهوة الحضارية مع الآخر.